كان لثورات الربيع العربي التي بدأت عام 2011 تأثير على قدرة الدولة العربية على الحكم والحصول على الضرائب وحماية المواطنين، لا سيما في وقت أضحت فيه الدول العربية ضعيفة بسبب الصراع من أجل إنشاء أنظمة دستورية جديدة وأكثر استقرارًا، والطائفية السياسية المتزايدة، وتزايد عدد التنظيمات والحركات الجهادية العسكرية في سوريا والعراق وليبيا وشبه جزيرة سيناء. وهذه التحديات تحدث في منطقة موسومة بمشكلات اجتماعية-اقتصادية، حيث معدلات البطالة المرتفعة، والتشرد، واللجوء والنزوح، ومهددة بفعل مشكلات إيكولوجية ضخمة، كنقص المياه، والتصحر، والافتقار إلى مصادر طبيعية بخلاف النفط.
وفي هذا الصدد، تأتي دراسة روجر أوين بعنوان “مستقبل قوة الدولة العربية” ضمن تقرير أصدره مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية عام 2015 بعنوان “مرافئ صخورية: جردة للشرق الأوسط خلال عام 2015” التي يختبر فيها المؤلف الأسس السياسية-التاريخية للمشكلات الحالية ومسارات المستقبل المحتملة، من خلال تقسيم الدول العربية إلى ثلاث مجموعات هي: شمال إفريقيا، والهلال الخصيب، والخليج العربي.
شمال إفريقيا:
أُسست بِنَى الدولة في شمال إفريقيا تأسيسًا جيدًا، لكنها تفاوتت في قدراتها، من ضعيفة ولكن مكلفة، إلى قوية ولكن فارغة. ولم تُفهم هذه المشكلة قبل الانتفاضات أبدًا، إذ غطى حجم البيروقراطية وضراوة قوات الأمن في مصر وتونس على حقيقة أن النظام يمتلك القليل من القوة اللازمة لتوجيه حياة مواطنيه، ناهيك عن إدماجهم مباشرة في تنمية اقتصاد معتمد بشدة على السياحة والمساعدات الخارجية. وفي ليبيا، على النقيض من ذلك، اعتمدت الوحدة التي ظهرت بعد الاستقلال على وهم بأن قائدها يحتفظ بسيطرة على عوامل قوة الدولة، ومن ثم استشرت شرارة الموجة الأولى من الانتفاضات الجماهيرية في تونس سريعًا في مصر ثم ليبيا، وسقطت أنظمتها جميعًا. وفي هذه الحالات كافة، أثبت الجيش عجزه أو عزوفه عن احتواء هذه التحركات الشعبية، بينما أزيحت الشرطة من المشهد بسهولة بالغة، وأنتج الانتشاء بالإطاحة المفاجئة بالديكتاتوريات الفاسدة إحساسًا وجوديًّا بالإثارة بين المحتجِّين، وبأن الأمور لن تعود إلى ما كانت عليه أبدًا.
وركزت محاولات إنشاء نظم سياسية جديدة على إعداد دساتير جديدة أو معدَّلة، وأجرت الدول انتخابات لإنتاج حكومات جديدة أو جمعيات دستورية لإدارة التحول. في ظل هذه الظروف المثيرة، كان طبيعيًّا لكثير من المشاركين أن يشعروا بالقوة، وهو ما لم يكن من السهل ترجمته في الممارسات السياسية اليومية التي كانت ضرورية لإنشاء أحزاب قابلة للحياة، متمايزة ببرامج أيديولوجية مختلفة، تستهدف مجتمعات انتخابية سياسية محددة وأجندات إصلاح مختلفة.
تلا ذلك أول انتخابات وطنية فازت بها الحركتان الدينيتان المؤسستان جيدًا (الإخوان المسلمون في مصر، والنهضة في تونس) اللتان لم تعانِ أيٌّ منها من وصمة فساد النظام السابق، لكن كلا منهما واجه مشكلات جمة في العملية التي ربما كانت مستحيلة لتحويل نفسيهما إلى منظمتين حاكمتين ببرامج مفصلة لإصلاح اقتصادي واجتماعي من شأنه أن يسفر عن نتائج. أدى هذا إلى سقوط الإخوان المسلمين في مصر، وإلى دخول زعيم حركة النهضة “راشد الغنوشي” في “ائتلاف الأحزاب الوطنية” بتونس، مع تخلصه من كل حمولته الدينية تقريبًا.
ولم تتغير كثيرًا درجة قبضة الدولة في مصر، ولا الارتباكات المميّزة لعلاقتها بالاقتصاد. ويبدو مستقبل مصر السياسي مضطربًا بسبب الضغوط الدولية التي يُواجهها الرئيس عبدالفتاح السيسي لتنفيذ إصلاحات قد تُفضي إلى ضغط تضخمي ومعاناة اقتصادية على المدى القصير. وبينما يتبع السيسي المسار الذي ابتدعه سلفه جمال عبدالناصر، محاولا تعزيز القوة من خلال تصحيح المسار الاقتصادي أولا، فثمة قليل من الدلائل على أن الدولة تنمو على نحو أقوى (من حيث قدرتها)، أو على أنها تنسحب بالمطلق من السياسات الاقتصادية الدولية.
عبور تونس باتجاه ديمقراطية متعددة الأحزاب كان أسهل بكثير، بسبب مجموعة من العوامل: حجمها الأصغر، وجيشها الأصغر جدًّا، والقيادة المعتدلة لحركتها الدينية الرئيسية (النهضة)، ونظامها الانتخابي المشجع للائتلافات والحلول الوسطى. وهكذا انتُخب البرلمان، وانتُخب الرئيس الباجي قائد السبسي الذي رأى كثير من الناخبين أن عمله الطويل في خدمة النظام السابق ميزة تاريخية، تجعله يمثل نوعًا من الأب الحكيم المؤهل لرعاية المجتمع في مرحلة جديدة.
لكن تونس لا تزال تواجه مشكلات عويصة، بعضها مشترك مع مصر، مثل: أمن الصحراء، والتصحر، والمشكلات المرتبطة بجذب الاستثمارات الأجنبية في صناعة سياحية متقلصة، والبعض الآخر تتميز به تونس، مثل حقيقة أن نحو 3000 شاب تونسي جهادي اختفوا ليقاتلوا في سوريا والعراق منذ عام 2011، ويشكلون واحدة من أكبر المجموعات القتالية الأجنبية هناك. وعلى الرغم من هيمنة المخاوف السياسية والأمنية منذ الإطاحة بـ”بن علي”، فلم يُفعل شيء تقريبًا للتصدي لهذه المشكلات. ولذلك، لا يوجد دليل ملموس على تقلص الدولة في تونس، ولا سبب، مثل مصر، لافتراض أي شيء سوى الاستمرار في الأنماط الراهنة للمحسوبية التي تَنتُج حيثما تظل الحدود بين مصالح رجال الأعمال وبين الدولة هشة.
المشرق العربي:
عانت بِنَى الدولة في سوريا ولبنان والعراق تاريخًا مضطربًا في المرحلة ما بعد الاستعمارية، ويرجع ذلك إلى قِصَر الفترة الاستعمارية الذي منح وقتًا قليلا لخلق المؤسسات الوطنية المركزية اللازمة للحكم وصيانة النظام، ووجود قدر وافر من الأقليات الدينية والعرقية التي سكنت مناطق خارج سيطرة الحكومة المركزية في بعض الأحيان، ومشاعر المذلة التي نجمت عن العجز عن تدمير دولة إسرائيل. وكانت النتيجة سلسلة من الانقلابات العسكرية التي قوضت الطبقة الحاكمة الراسخة.
أنشأ قادة هذه الانقلابات بِنَى دولة أكبر وأقوى، مصممة للسيطرة على شعوبهم شديدة المراس، ولتقديم أنماط من ترتيبات التعليم والرفاه على غرار ما كان في مصر الثورية. وهكذا شهدت العراق وسوريا فترة مديدة من الحكم السلطوي لعائلة الأسد في سوريا وصدام حسين في العراق، وجمع كلا النظامين ما بين عصا القمع الغاشم، وجزرة الرفاه الاجتماعي، للحفاظ على حكميهما، إلى أن عجزا عن تحمل النفقات المتزايدة لهذا النمط، وأُجبرا على البحث عن أشكال جديدة للإيرادات. بدأت سوريا تنفتح أمام رأس المال الخاص، بينما حاولت العراق الاستيلاء على الكويت الغنية بالنفط عام 1990، وبعد أن أفشل ذلك بفعل التدخل الدولي، حاولت العراق بيع نفطها بأسعار مخفضة جدًّا خلال نظام العقوبات اللاحق.
توالت المواقف المؤسفة فيما بعد. في العراق، قوَّض الغزو الأمريكي عام 2003 مجمل البنى القديمة للدولة (الرئاسة)، وحزب البعث الحاكم، وأجهزة الأمن الداخلي، والجيش. وحل محلها نظام دمية مدعوم من المستشارين الأمريكيين والبريطانيين، ترأس على مجموعة مشوشة من الوزارات مع قليل من السيطرة خارج المدن الرئيسية في الموصل وبغداد والبصرة. وحدث الأسوأ عندما سعى رئيس الوزراء نوري المالكي الذي وصل إلى السلطة أول مرة عام 2006 إلى استخدام الولاءات والمؤامرات لخلق منظومة من الإقطاعيات المحلية، وضمنها العسكرية التي سرعان ما تفسخت قياداتها العليا ببساطة عند أول هجوم منسق من تنظيم الدولة الإسلامية عام 2014.
وفي سوريا، لم تتفكك بِنَى الدولة بالطريقة نفسها، لكن المساحة الجغرافية التي تسيطر عليها الدولة تلاشت، حيث حدَّ لفيف من قوى التمرد الداخلي والجهاديين الأجانب بشدة من سيطرة نظام الأسد على قطاعات كبيرة من الريف وراء مدينتي دمشق وحلب. وكما ثبت مرارًا في المرحلة الاستعمارية في سوريا وغيرها، لم تكن القوة الجوية كافية للسيطرة على سكان شديدي المراس على الأرض، مزودين بالأسلحة في أيدي الشباب الناقم.
الخليج العربي:
تعني فكرة “الدولة” شيئًا مختلفًا وغير اعتيادي عند تطبيقها على الكيانات المحكومة حكمًا عائليًّا في الخليج العربي. فقد اعتمدت هذه الدول تاريخيًّا على الآخرين (المملكة المتحدة، ثم الولايات المتحدة) لحمايتها من الهجوم الخارجي والداخلي أحيانًا، كما اعتمدت على الأجانب لشغل الوظائف في معظم الوزارات المحلية.
وكان النفط سيفًا ذا حدَّين، وفر ثراء عظيمًا للأسر الحاكمة، لكنهم عندما قرروا إنشاء دول رفاهية احتاجت صيانة اقتصاداتهم ودول رفاهيتهم قوة عمل أجنبية متزايدة، استُقطِبت في البداية من العرب من مصر ولبنان والأردن، ثم اعتمدت على الرجال من شبه القارة الهندية والنساء من إندونيسيا وتايلاند وأجزاء أخرى من جنوب شرق آسيا. ومما زاد الأمور تعقيدًا أن محاولات منع تطور مجتمع سكاني ضخم ودائم من غير المواطنين سرعان ما أخفقت، وانتُهكت مختلف التشريعات المصممة لمنع العمال المهاجرين من مواصلة الإقامة بعد انتهاء مدة عقودهم.
ماذا يترك هذا من الأدوات التقليدية لقوة الدولة كما عرَّفها ماكس فيبر وغيره من الكُتاب؟ أظهرت هذه الدول نسخة من السيادة المقدسة بعضويتها في الأمم المتحدة وغيرها من المؤسسات الدولية التي حمت سيادتها في مناسبات مختلفة من خلال تحرك دولي مشترك، كما تمتلك هذه الدول رموز الدولة الحديثة، من أعلام، وعواصم، ومجال سياسي وحيد، ومجموعة مميزة من المؤسسات القانونية والتعليمية، إلى جانب “الروايات الوطنية” بالطبع عن العائلات الحاكمة الحالية، لكن العديد منها يفتقر إلى الملامح الأخرى لقوة الدولة الحديثة، وضمنها احتكار أعمال الشرطة والعنف -التي تتشاركها مع مواطنيها- والشرعية القانونية المحترمة من كل المقيمين الدائمين الذين يعيشون ضمن حدودها الوطنية. ولا يبدو مرجحًا أن تُعالَج هذه الفجوات في المستقبل القريب؛ بل إن العكس هو الأرجح، فقد بدا أن أحد العوامل الرئيسية لنجاح دول الخليج حتى الآن هو السِّرِّية التي تُحكَم بها، والافتقار شبه التام لمساءلة عائلاتها الحاكمة، لكن هذا لا يكاد يُنتج شرعية.
العودة للنظام العثماني
يمكن تقديم خلاصتين بدرجة معقولة من الاطمئنان، أولا: أننا لسنا بصدد رؤية أي تقلص في الدولة بحد ذاتها من حيث حجمها، أو ضراوة قواتها الأمنية، أو الدور المركزي المُمارَس في إدارة حيوات معظم السكان العرب. الاستثناءات من ذلك هي تونس، وتلك الدول المنكوبة التي قُوِّضت قدرتها على القمع بفعل الغزو الخارجي أو الحرب الأهلية.
ثانيًا: معظم الأنظمة العربية ستنهمك بطرق جديدة في إدارة مجتمعاتها، على الرغم من أن غالبيتها ستظل لفترة طويلة تفتقد نمط المشاركة الديمقراطية الذي يتسم به غالبية جيرانها الأوروبيين. ويمكننا تخيل التطورات المحتملة كما يأتي:
التطور الأول المذكور بالفعل في حالة مصر ودول الخليج النفطية، هو أن يزداد سعي الدول لإشراك مواطنيها في شراكات نافعة، أو مبادرات تنمية كبرى، لإعطائهم شعورًا بأن لهم مصلحة في مستقبل دولهم الذي سيبقى، مع ذلك، محلا للسيطرة المركزية.
التطور الثاني هو أن تستغل الحكومات التقدم التقني الحديث، وخصوصًا في مجال المراقبة، وتستخدمها في أفعال من قبيل التنصت على الهواتف، ولكنها قد تمتد لتشمل مراقبة أفضل للتجمعات السكانية من خلال إنشاء عناوين محددة لكل منزل وأسرة، لا لغرض الأمن وحده بالضرورة، ولكن للأغراض الأخرى كالتعليم والرفاه الاجتماعي أيضًا.
التطور الأخير المحتمل هو أن الحكومات قد تستخدم قوة الدولة لتوفر البنية التحتية التي ستُعزز مجتمعًا مدنيًّا نابضًا بالحياة. يبدأ هذا بالتحول تجاه بِنَى قانونية تسمح بنمط الاتحادات الخاصة التي صارت جزءًا مهمًّا من المشهد الاجتماعي التونسي، ينخرط بعضها في الرقابة على الحكومة والنشاط البرلماني، بينما يختبر البعض الطرق الجديدة لتشكيل جماعات ضغط تتكتل من أجل الإصلاح الاجتماعي.
فهل ستُفضي هذه التدابير إلى إنشاء بِنَى دولة أكثر حيوية ومتمتعة بكامل السيطرة على حدودها؟ يجب أن يبقى هذا السؤال مطروحًا، فالكثير من أشكال الجماعات الجهادية داخل الحدود أو خلفها مباشرة يهدد كلا من سلطة الأنظمة والتماسك الاجتماعي، ويبدو المستقبل العاجل في كثير من الحالات، وخصوصًا في العراق وسوريا واليمن، هو العودة إلى شيء يشبه النظام العثماني القديم؛ حيث تركزت السلطة الإدارية في سلسلة من العواصم الولائية (دمشق، وحلب، والموصل، وبغداد، والبصرة، وصنعاء، وعدن)، ولم يكن أيٌّ منها قادرًا على إنجاز تفوق مستقر على الآخرين، ولا على الريف الفاصل بينها. أما الحدود الصحراوية فهي هشة، ويستطيع الجهاديون والمهربون وغيرهم الانتقال عبرها بسهولة، ويعني ذلك على أقل القليل إضعافًا للسيادة التي حصلت عليها الدول العربية بعد الاستقلال، وتقليل القدرة على الحكم وتوفير الأمن، وقد يفضي ذلك إلى ضغط من أجل إنشاء وكالات أمن فوق-وطنية عربية تتكفل بما لا تستطيعه كل دولة بمفردها.
عرض: جلال الدين عز الدين علي – باحث في الشئون السياسية.
المصدر:
Roger Owen, “The Future of Arab State Power”, in Jon B. Alterman (ed.), Rocky Harbors: Taking Stock of the Middle East in 2015 (CSIS, 2015), p. 11-18. Available online at:
نقلا عن المركز الاقليمي للبدراسات الاستراتيجية