لم يأت التقرير المحترم الذى أصدرته اللجنة المكلفة بالتحقيق فى المشاركة البريطانية فى غزو العراق 2003 بأى جديد بالنسبة لكل من تابع فى حينه الوقائع المؤسفة التى سبقت الغزو وتلته ، ومازلت أذكر جلسة مجلس الأمن الهزلية التى قدم فيها كولين باول وزير الخارجية الأمريكى آنذاك ما اعتبر أنه أدلة دامغة على امتلاك العراق أسلحة دمار شامل ، وقد اتصلت بعد هذه الجلسة بأصدقاء لى من العسكريين أسألهم عما إذا كنت مبالغاً فى تقدير تفاهة ما عُرض من أسانيد فجاءت إجاباتهم جميعاً مؤكدة أنها فاقدة الصدقية مستخفة بالعقول ، ولم تخرج تبريرات بلير حينها عن هذه التفاهات لكن قيمة التقرير أنه أكد على نحو قاطع ما كان أى مراقب موضوعى قد توصل إليه من زيف الأسباب التى سيقت لتبرير الغزو ، فقد قطع بأن قرار الغزو اعتمد على معلومات استخبارية مغلوطة وتقديرات غير دقيقة ، والأكثر من هذا أن رئيس جهاز المخابرات البريطانى كان قد نفى بعد الغزو أى مسئولية للجهاز عن هذه المعلومات الخاطئة وهو ما يغير تكييف ما حدث من الخيبة فى تقدير الموقف وهو أولى خطوات صنع القرار الرشيد إلى الكذب البواح ، ويؤكد هذا أن تقرير وكالة الطاقة الذرية الذى قُدم لمجلس الأمن فى 27 يناير 2003 أى قبل الغزو بأقل قليلاً من شهرين قد قطع بأن فريق المراقبين التابع للوكالة لم يجد أى دليل على أن العراق أحيا برنامجه للأسلحة النووية منذ القضاء على ذلك البرنامج فى التسعينيات ولذلك عجبت من أمر الذين واتتهم الجرأة بعد نشر التقرير لوصف البرادعى بأنه مجرم حرب ونسبة دور تآمرى وتحريضى له فى جريمة غزو العراق .
تمتد الجريمة إلى عدم توقع تداعيات الغزو أو على الأقل الاستخفاف بها وقد كانت مخاطر نشوب نزاع داخلى فى العراق واضطرابات فى المنطقة تشمل تصاعداً للإرهاب متوقعة قبل الغزو بوضوح بما فى ذلك احتمال استيلاء الجماعات الإرهابية على أسلحة الجيش العراقى بعد هزيمته بل انضمام عناصر منه إلى هذه الجماعات ، وقد اعترف بلير بعدم التنبؤ السليم بصعوبات ما بعد الغزو ، وتمتد الجريمة أيضاً إلى إدارة العراق تحت الاحتلال وقد أكد التقرير أن التحضيرات لها لم تكن ملائمة ، وكلنا يعلم السياسة الأمريكية الكارثية التى اتُبعت فى هذا الشأن والتى أدت إلى تقويض الدولة العراقية بحل مؤسساتها العسكرية والأمنية والسياسية وليس إصلاحها وتفكيك المجتمع العراقى بسياسة المحاصصة الطائفية التى أوصلته إلى حافة الحرب الأهلية وأدى هذا كله إلى تقديم العراق لقمة سائغة لمشروع الهيمنة الإيرانى ، وقد دافع بلير عن نفسه بعد نشر نتائج التقرير بحجج لا تقل زيفاً عن حجج الإقدام على الغزو وشاركه فى هذا شريكه أو بالأحرى قائده الأمريكى جورج بوش الابن ، وعلى رأس هذه الحجج أن العالم أصبح بعد صدام حسين أفضل مما كان فى وجوده وهو ما يدل على الإمعان فى الاستخفاف بالعقول ، إذ إنه من المؤكد أن العالم بعد الغزو أصبح أسوأ جدا مما كان قبله ، وكان التعثر الأمريكى فى العراق واحدا من مؤشرات تراجع القطبية الأحادية الأمريكية التى بلغت ذروتها بقرار الغزو الذى تم رغم أنف مجلس الأمن تناهيك عن أن الغزو قد سلم العراق لإيران خصم الولايات المتحدة اللدود حتى ذلك الوقت .
لقد ظللت أُدرس لطلبتى عشرات السنين أن النظام الديمقراطى يوفر الشروط المثالية لصنع القرار الرشيد ففى ظل الديمقراطية يمكن جمع المعلومات الضرورية لاتخاذ القرار السليم وتدقيقها والاتفاق على الهدف من هذا القرار ثم البحث عن البدائل المختلفة لتحقيق هذا الهدف ودراستها لاختيار أفضلها ، وهاهى خبرة جريمة غزو العراق تمثل خروجاً على أبسط معايير الديمقراطية فقد تم تحديد هدف تعسفى لتحقيق مصالح بعينها وتم تلفيق المعلومات كى تبرر السعى لتحقيقه واختيرت أسوأ وسيلة لذلك وهى التدخل العسكرى المباشر على النحو الذى أفضى إلى ما نشهده حتى الآن من كوارث داخل العراق وخارجه وهذا كله فى إطار العصف بالشرعية الدولية وهو درس لنا كى نتأكد أن المحدد الأول لقرارات القوى الدولية.
تسُئل خبير قانونى بريطانى بعد إعلان نتائج التقرير عن آثاره القانونية المحتملة فأجاب بأن نتائجه ليست لها قوة قانونية ولكن أسر الجنود البريطانيين الذين قُضوا فى الحرب تستطيع أن تستند إلى التقرير فى رفع قضايا تعويض ، فمن يعوضنا يا تُرى عن عشرات أو مئات الألوف من أبناء الشعب العراقى وعن انهيار دولة كانت يوماً عاصمة للخلافة الإسلامية ؟
د. أحمد يوسف أحمد
*نقلا عن صحيفة الأهرام