يمثل اعتماد بلدان الخليج على مبيعات النفط الخام أهم انكشاف أمام الاقتصاد العالمي ومتغيراته، فتحولات العرض والطلب تؤثر في الأوضاع الاقتصادية والمالية العامة في أي من بلدان المنطقة، كما أن الاستثمارات الخليجية في أسواق المال الرئيسة والاستثمارات الخليجية المباشرة في البلدان الصناعية وغيرها تمثّل مصدراً أساسياً ومهماً يعضد الدخل النفطي. ولأن المداخيل من الصادرات النفطية لا يمكن تعويضها في شكل مؤاتٍ، أقله في الأجل القصير، اتخذت حكومات الخليج في ضوء تراجع أسعار النفط إجراءات هادفة إلى ترشيد الإنفاق العام من أجل ضبط العجز المتوقع في الموازنات الحكومية. وما زاد من تعقيد المسألة أن اقتصادات هذه البلدان تعتمد على أدوات الإنفاق العام والدور المهيمن للحكومات في العملية الاقتصادية.
وأتت متغيرات في الأوضاع الاقتصادية في البلدان الرئيسة مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وبلدان الاتحاد الأوروبي لتزيد المصاعب التي تواجه بلدان الخليج. فتأييد البريطانيين في استفتاء الشهر الماضي لخروج بلادهم من الاتحاد الأوروبي أثار قلقاً مستحقاً لدى المسؤولين الخليجيين، فبريطانيا خصوصاً وأوروبا عموماً من أهم الملاذات لاستثمارات الصناديق السيادية والقطاع الخاص في بلدان الخليج. والتبدلات في العلاقات الاقتصادية بين بريطانيا وبلدان الاتحاد الأوروبي قد تؤثر إلى درجة ما في وضعية هذه الاستثمارات المتنوعة، لجهة قيم الأصول المستثمرة أو عائداتها أو التبعات الضريبية أو الأرباح الرأسمالية.
إن مفهوم التحرر من الانكشاف أو التبعية ربما لم يعد متاحاً حتى لأكبر الاقتصادات، فأي اقتصاد لا بد من أن يتأثر بمجريات الاقتصادات الأخرى من خلال العلاقات التجارية أو التوظيفات المالية، وجاء تأسيس منظمة التجارة الدولية ليحدد شروط العلاقات بين البلدان الأعضاء فيها، وانضمت كل بلدان الخليج إلى هذه المنظمة وقبلت بشروطها. وربما يكون تأثير الأوضاع الاقتصادية العالمية متبايناً بين دولة وأخرى اعتماداً على طبيعة اقتصادها وقدرتها على الاعتماد على آليات الاقتصاد المحلي. مثلاً، يمكن للولايات المتحدة أن تعتمد في شكل أكبر على الاستهلاك المحلي أكثر من اليابان أو ألمانيا اللتين تعتمدان على التصدير.
وعند دراسة اقتصادات بلدان المنطقة تاريخياً نجد أنها اعتمدت على علاقات تجارية حتى قبل عصر النفط وارتبطت اقتصاداتها بالتصدير، مثل تصدير اللؤلؤ الطبيعي من البحرين والكويت حتى ثلاثينات القرن الماضي، قبل أن ينهار ذلك النشاط بعدما طور اليابانيون اللؤلؤ الصناعي. وعندما بدأ عصر النفط اعتمدت هذه البلدان على شركات غربية لتطوير الصناعة النفطية واعتمدت على تصدير نفطها الخام، ثم النفط المكرر ومنتجات الصناعات البتروكيماوية، إلى بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وهي بلدان أوروبية وأميركية وبلدان رئيسة في شرق آسيا.
يضاف إلى ذلك أن اقتصادات بلدان المنطقة ذات طاقات استيعابية محدودة لاستيعاب الأموال الفائضة عن الإنفاق العام، أو تلك الأموال التي توافرت لرجال الأعمال، ما دفع إلى توظيفها في البلدان الرئيسة المعتمدة على أنظمة اقتصادية متحررة. وعلى رغم توافر فرص الاستثمار في عدد من البلدان العربية والنامية، فإن هذه الاستثمارات ظلت محفوفة بأخطار عالية نتيجة للافتقار للقوانين والأنظمة الموثوقة التي تحمي الأعمال الاستثمارية وتضمن عائداتها.
كيف يمكن لبلدان الخليج أن تتمكن من تجاوز الأزمات السياسية والاقتصادية التي تواجه بلداناً رئيسة في هذا العالم وتخفض من درجة انكشافها على هذه الأزمات؟ يمكن لبلدان المنطقة أن تعالج السياسات المالية وتعزز إصلاح البنية الاقتصادية وتفعل دور القطاع الخاص وتعزز مساهمة اليد العاملة الوطنية وترتقي بالنظام التعليمي. لكن ذلك لن يحقق لها الانعتاق من العلاقات الاقتصادية مع بقية بلدان العالم، خصوصاً الشركاء التجاريين الرئيسيين أو البلدان الأساسية التي تستوعب التوظيفات المالية الخليجية في شكل كبير.
هناك أهمية لتطوير علاقات متنوعة مع البلدان الأساسية المستوردة لنفط بلدان الخليج وتأكيد ذلك من خلال عقود واتفاقات طويلة الأجل وبشروط ملائمة للبلدان المصدرة والمستوردة. ويتعين أن تتطور العلاقات الاقتصادية المتمثلة بالاستثمار لتصبح ذات مسارين، أي أن على بلدان الخليج تشجيع الشركات العالمية لتوظيف أمولها ونقل التكنولوجيا إليها والعمل لتدريب المواطنين وتشغيلهم بما يرتقي بآليات التنمية البشرية، وذلك في موازاة الاستثمار الخليجي في تلك البلدان.
ومهما كان هناك من قلق في شأن الأوضاع الاقتصادية في البلدان الرئيسة في العالم، فإن هذه البلدان لا بد من أن تجد الصيغ الملائمة لتمتين العلاقات في ما بينها وبما يمكن التكتلات الاقتصادية العالمية من أن تستفيد من تلك الصيغ، بما يؤدي إلى بناء علاقات اقتصادية متميزة قد تستفيد منها بلدان الخليج في شكل غير مباشر.