ما تزال الولايات المتحدة تخوض حرباً منذ 15 عاماً تقريباً. وكان الهدف الأساسي من الحرب هو وضع نهاية لتهديد الإرهاب الذي يشكله الجهاديون. وقد اتخذت هذه الحرب منعطفات وتحولات عدة، وكانت العديد من الخيارات العملياتية فيها موضع شك واستنطاق. ومع ذلك، يمكن القول إن الهدف الاستراتيجي الأساسي للحرب لم يتحقق، بغض النظر عن وجهات النظر حول العراق أو أفغانستان. ما يزال الإرهاب الإسلاموي ناشطاً في أوروبا، كما أنه يظهر نفسه أحياناً في الولايات المتحدة. وربما كان تحوله إلى أوروبا والولايات المتحدة نتيجة للعمليات الأميركية، ولكنه قد يعني أيضاً تحولاً في الاستراتيجية الإرهابية في الوقت الراهن.
كانت استراتيجية الولايات المتحدة تقوم في جوهرها على تحديد الجماعات الإرهابية والتعرف عليها وتدميرها. وكان الافتراض هو أن الإرهاب يتطلب وجود منظمة. وبذلك، يعني إحراز التقدم في هذه الاستراتيجية التمكن من تحديد منظمة أو خلية تخطط لشن عمليات عسكرية، ثم قطع الطريق عليها وتدميرها. وبما أن المنظمات الإرهابية تكون صغيرة نسبياً على المستوى العملياتي، كانت الاستراتيجية تشبه عمل الشرطة: الخطوة الأولى هي تحديد هوية الشخص النشط في منظمة ما. وبعد أن تتعرف عليه، قم بإرسال الطائرات من دون طيار أو رجال الفقمات أو القوات الخاصة لاعتقاله أو قتله.
من الناحية العملياتية، كانت هذه الاستراتيجية ناجحة. فقد تم تحديد الإرهابيين وقتلهم. ومع إضعاف المنظمات وكسرها، تراجع الإرهاب -لكنه عاد بعد ذلك إلى الصعود. وربما تكون هذه العمليات لا نهائية، والتي قامت بها المخابرات والقوات الخاصة، قد نفذت بما ينبغي من البراعة، لكن الهدف الاستراتيجي للولايات المتحدة لم يتحقق. إن الحرب لا تُكسب، وتعادل حالة الجمود الخسارة بالنسبة للولايات المتحدة.
كانت المشكلة الأساسية هي سوء فهم مقيم للإسلام المتطرف. إنه حركة وليس منظمة. أو حتى نكون أكثر دقة: إن الإسلام الراديكالي هو سلالة من الإسلام. أما كم هو كبير أو صغير، فذلك موضوع للنقاش الذي لا طائل تحته إلى حد ما. لكن حجمه يكفي على أي حال لإرسال القوات كل الطريق إلى جميع أنحاء العالم، وهو قادر على تنفيذ هجمات في أوروبا والولايات المتحدة. وسواء كان فرعاً صغيراً أو فرعاً عملاقاً، فذلك لا يهم. إن ما يهم فعلاً هو أنه لا يمكن كبحه، أو أنه لم يتم كبحه بعد.
إحدى المشاكل في التفكير الأميركي هو أنه ما يزال يمتح من تجربة الولايات المتحدة مع الارهاب الأوروبي والمنظمات الفلسطينية قبل العام 1991. وقد تأثرت هذه المجموعات بشدة بالنموذج السوفياتي وخلقت منظمات مغلقة بإحكام إلى حد كبير. وكانت لتلك المنظمات ثلاث سمات. أولاً، على الرغم من أن بالإمكان تجنيد المتعاطفين من خلال عملية تدقيق متأنية، فقد كانت العضوية في المنظمات رسمية، بمعنى أنك إما أن تكون عضواً فيها أو لا تكون كذلك. ثانياً، حمت تلك المنظمات نفسها من خلال البقاء على مبعدة من أي حركة، إلى أقصى حد ممكن. وكانت مسكونة بهاجس منع الاختراق. وأخيراً، كانت تلك المنظمات مجزأة بشكل كبير بحيث أن الأعضاء والعمليات لا يصبحون معروفين إلا على أساس الحاجة إلى أن يكونوا كذلك.
كانت تلك المنظمات قد أعدت على أساس أن تكون مستدامة لفترة طويلة من الزمن. ولكن، كان لديها عيب. إذا كان من الممكن اختراقها (مهما كان ذلك صعباً) من خلال مخبرين أو من خلال المراقبة الإلكترونية، فإن المنظمة بأكملها يمكن أن تنهار. إما أن يتم تدميرها تماماً من خلال عمليات، أو أن مجرد الارتياب الهائل الناجم عن معرفتها بأنها تعرضت للاختراق في مكان ما، سيؤدي إلى الصراع الداخلي أو يؤدي بها إلى أن تصبح خاملة.
في بعض الحالات، لم يكن لهذه المنظمات أي حركة تدعمها، أو أن الحركة تكون ضئيلة جداً بحيث لم تكن تسبب مشكلة. وكان هذا صحيحاً بشكل خاص مع الإرهابيين الأوروبيين. وفي المقابل، كانت لدى المنظمات الفلسطينية حركة كبيرة، ولكنها مجزأة ومخترقة جداً بحيث نأت المنظمات بنفسها عن الحركات. وقامت الأجهزة الأمنية الغربية على مر الزمن بتحطيم المنظمات وتحويلها إلى فصائل، إلى درجة أنه أمكن استخدام الفصائل المختلفة ضد بعضها بعضا.
طوال 15 عاماً، كان موضع التركيز العملياتي للولايات هو تدمير المنظمات الإرهابية. والسبب في ذلك هو أن تدمير مجموعة معينة يصنع الوهم بإحراز التقدم. ومع ذلك، وكلما تم تدمير مجموعة ظهرت مجموعة أخرى تحمل اسمها. وعلى سبيل المثال، تم استبدال تنظيم القاعدة بتنظيم “الدولة الإسلامية”. ومكمن القوة الحقيقية للإرهاب الإسلاموي هو الحركة التي تصنع المنظمة نفسها منها وتغذى منها. وطالما ظلت الحركة سليمة، فإن أي نجاح في تدمير منظمة سيكون مؤقتاً في أحسن الأحوال، بل مجرد وهم في واقع الأمر.
بالإضافة إلى ذلك، ولأن هناك حركة، تستطيع المنظمة الرئيسية تنظيم هجمات إرهابية عن طريق إرسال أفراد لا يعرفون سوى القليل من التفاصيل عن المنظمة لتنفيذ عمليات. ولكن، لأن الحركة تتكون من الأفراد الذين يفهمون ما يجب القيام به، فإن المنظمات الجهادية ليست مضطرة إلى تجنيد أشخاص لتنفيذ هجمات أو تعليمهم كيفية القيام بذلك. ولم يتكرر تعقيد هجمات 11/9 أبداً، وازداد مستوى البساطة مع مرور الوقت. ويعني هذا أن أعضاء الحركة الذين لم يسبق لهم الاتصال بالمنظمة يمكن أن ينفذوا الهجمات. ومن وجهة نظر المنظمة، فإن هؤلاء يشكلون مهاجمين مثاليين. فهم لا يمكن تعقبهم الى المنظمة، وهم ليسوا تحت المراقبة، وهناك نماذج كافية يستطيعون الاستفادة منها والبناء عليها من دون الحاجة إلى طلب المشورة.
في النموذج القديم، كانت المنظمة المركزية تقوم بتنسيق جميع الهجمات. وفي النموذج الجديد، لا يكون لمعظم المنظمات أي اتصال مع الناس ينظمون العمليات، ولا تؤدي مهاجمة المركز إلى تقليل الهجمات. وفي الآونة الأخيرة، دارت مناقشات عبثية حول ما إذا كان لإرهابيين معينين اتصال مع إرهابيين آخرين، أو ما إذا كان قد تم “تحويلهم إلى التطرف”. وأفترض أن هذا يعني أنه تم إقناع الشخص بأن يصبح إرهابياً. في الحركة، يكون المرء مدركاً لحقيقة أن هناك آخرين مثله، والذين يفكرون مثله. وأنت لا تحتاج إلى ملفات رسمية مرفقة حتى تستجيب لإيديولوجية حركة.
ومع ذلك، فإن فكرة الجهادية تغلغلت في الحركة، والمسلمون يدركون هذا. وربما يرفض المعظم ذلك، لكن البعض يقبلونه ويعتنقونه. إنك لا تحتاج إلى برنامج التدريب حتى تستوعب كل ما يدور حولك. وإذا لم يكن الفرد يعرف أي أحد يكون جزءا من الحركة القائمة، فإن هناك ما يكفي على شبكة الإنترنت، أو ما يكفي من التكهنات في وسائل الإعلام لرسم خريطة لأي شخص يريد خريطة مرسومة. وربما تكون الفكرة القائلة إنه إذا أطلق مسلم النار على 20 شخصاً، وإنما لم تكن له أي اتصالات مع منظمة إرهابية، فإنه ربما لا يكون قد فعل ذلك لأسباب أيديولوجية، ربما تكون فكرة صحيحة. لكنها تنسى أنه لا يحتاج إلى اتصال مع معلم أو راعٍ للتخطيط لهجوم، خاصة إذا كان هجوماً بسيطاً نسبياً. إن الحركة والجو العام مليئان بالفكرة.
الحركة ليست منظمة بأكثر مما هي المحافظية أو الليبرالية كذلك. وقد تكون هناك منظمات مرتبطة بها، لكن ذلك يكون أقرب إلى ميل اجتماعي. ومع ذلك، يظل أعضاؤها يتوصلون مع بعضهم بعضا. وهناك قادة في جميع هذه الحركات، على الرغم من أنهم قد لا يكونون مُديرين بالمعنى العادي للإدارة.
هذا الاتجاه في الإسلام يجعل من إلحاق الهزيمة بالحركة صعباً للغاية. إنها عصية على الإزالة جراحياً. وبعض أعضاء الحركة لا يرتدون زياً مميزاً. كما أن من المستحيل أيضاً مهاجمة الحركة من دون مهاجمة الإسلام ككل. ومهاجمة الإسلام ككل هي أمر صعب بالمطلق. فهناك 1.7 مليار مسلم في العالم، ويستطيع أي واحد منهم أن يؤمن بالجهادية الراديكالية. والمؤمنون بالجهادية هم أناس خطيرون، يدفعهم ويحركهم قدرهم الخاص. وقد نرغب في التقليل من شأنهم ونعتبرهم حمقى. إذ سيكون من السهل هزيمتهم إذا كانوا كذلك.
من الواضح أن نهج العمليات الخاصة التقليدي لمكافحة الإرهاب لم ينجح، ولن ينجح. ومن الواضح أيضاً أن شن حربٍ عامة على الإسلام هو ضرب من المستحيل. وبذلك، يكون ما تبقى صعباً، ولكنه الخيار الوحيد. إنه ممارسة الضغط على الدول الإسلامية لتشن الحرب على الجهاديين بنفسها، والضغط على الاتجاهات الأخرى من الإسلام لكي تفعل ذلك أيضاً. ويجب أن يكون الضغط شديداً والمكافآت كبيرة. وتبقى احتمالات نجاح ذلك منخفضة، ولكن الطريقة الوحيدة للقضاء على هذه الحركة هي يكون المسلمون هم الذين يقومون بذلك. وقد لا يريدون القيام به، أو أنهم ربما يحاولون ويفشلون. لكن المزيد من الغارات بالطائرات من دون طيار، والإعلانات التي تقول إنه تم قتل قائد آخر من مجموعة ما، لن تعمل. وربما تنخفض خياراتنا إلى الحاجة إلى مجرد “التعايش مع الأمر” أو التحريض على حرب أهلية في العالم الإسلامي. وفي النهاية، ربما ينتهي بنا المطاف إلى خيار “التعايش مع الأمر” على أي حال.
جورج فريدمان – (جيوغرافيكال فيوتشرز) 26/7/2016
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
*نشر هذا المقال تحت عنوان:
The Problem with Fighting Islamist Terrorism
نقلا عن الغد الاردني