لا أدري ما إذا كان الهدوء الذي جاء على قمة نواكشوط العربية دليلا على النجاح أو الفشل؛ فالذائع أن القمم العربية يمكنها أن تعرف حالات كثيرة إلا أن تكون هادئة، ولكنها هذه المرة أتت وذهبت دون أن تثير أي انتباه. العادة كانت أن توترا يكون قائما لأن هناك معضلة بين بلدين عربيين أو أكثر، أو أن هناك خلافا حول عملية السلام وحل القضية الفلسطينية، أو أن لا أحد يعرف على وجه التحديد من سوف يأتي ومن سيغيب؛ ولا شك أن وجود شخصيات مسرحية مثل معمر القذافي كان يجعل من القمة مشهدا يُشاهد ليس من أجل التاريخ، وإنما من أجل التسلية.
ولم يكن قرار المملكة المغربية رفض استضافة القمة كافيا لكي يبث الحماس في عروق الصحافة والإعلام، ربما لأن حجة المملكة كانت مقبولة، بل إنه يمكن الثناء عليها. فالرباط لم تكن على استعداد لعقد قمة لا تكون جادة، تصدر قرارات واجبة التنفيذ. المشكلة في ذلك أن المغرب يعرف جيدا مؤتمرات القمة العربية، كما أنه هو ذاته ذو مقعد دائم في المؤتمرات حتى إنه بات مسؤولا عن قضية القدس، وهو يعلم أن قرارات القمة ليس معروفا عنها ضرورة التنفيذ، فهي تعبير عن نوايا طيبة لا بأس بها، وعندما تكون قرارات ذات أهمية، فإن الدراسات تثبت أنها كانت دائما غير قابلة للتنفيذ، وعندما تكون كذلك فإنها لا تنفذ. السؤال المهم هنا هو لماذا لم يقم المغرب بثقله وأهميته وتاريخه مع القمم العربية بإنقاذ القمة من الهدوء الذي اعتراها؟ كان بإمكان المملكة دعوة الأمين العام الجديد للتباحث حول كيفية إضفاء الحيوية على الحدث المهم، أو دعوة جماعة من الساسة والمثقفين العرب لبحث حالة الجامعة بعيدا عن الأضواء، ووضع جدول أعمال يليق بأمة عربية ذات رسالة خالدة، كما كان يقال في أزمنة قديمة. ما حدث أن المغرب ترك الموضوع كله وألقاه كما لو كان كتلة نار مشتعلة على عاتق الجامعة، فما كان من موريتانيا إلا أن تلقفت القضية، وقبلت التحدي، واستضافت القمة، وكان ذلك في حدّ ذاته مكسبا، فلم يسبق لنواكشوط استضافة قمة، فأصبحت هناك سابقة سوف تكتب في التاريخ.
ولكن الهدوء كان صارخا في نواكشوط لطبيعة أهلها من ناحية، ولأن غالبية القادة والزعماء لم يحضروا إلى القمة، وكان جدول الأعمال معروفا، وقراراته معروفة، إلى الدرجة التي لم يعد يحتاج معها أكثر من يوم واحد لإقراره. ويبدو أن الهدوء جاء ضاغطا على الأعصاب إلى الدرجة التي أصابت الصديق الوزير أنور قرقاش بضغط الدم فتم نقله إلى المستشفى، شفاه الله وعافاه. وهكذا لم يكن هناك على القمة إلا أن تنظر في جدول أعمالها السنوي، ونظرا لأن كل من حضروا ثم تركوا لم يمكثوا طويلا، فإنه من المستبعد وجود مشاورات تخص القضايا المثارة في العالم العربي، من أول الدول التي انهارت، وحتى الدول التي تعاني نتائج انهيار دول مجاورة، مرورا بالحرب المستعرة ضد الإرهاب وما ترتب عليه من تدخل أجنبي في الأراضي العربية المختلفة. لم يطل خيال لاجئين ولا نازحين ولا قتلى ولا جرحى، فالملفات القديمة كانت كافية لإصدار قرارات تؤيد مبادرات السلام العربية – الإسرائيلية؛ وتأييد الإمارات العربية في قضية الجزر، ورفض التدخل الإيراني في الشؤون الداخلية العربية. باختصار جرى إقرار كل ما جرى إقراره من قبل، أما ما استجد فإن ذلك نصيب قمة عربية أخرى.
بهذا المعنى نجحت موريتانيا في إدارة القمة العربية الأولى التي تنظمها، ويكفي أن الجامعة العربية التي لا تزال بيتا للعرب قد عقدت قمتها وانفضت دون إضافة شروخ جديدة. ولكن المرجح أن الصديق الأمين العام أحمد أبو الغيط كان يأمل فيما هو أكثر من ذلك، ولكن حكمته السياسية والدبلوماسية تجعله يعلم أن بيت العرب تواجهه تحديات ضخمة لم تبدأ مع «الربيع العربي»، ولكنه كان لحظة تحول كيفية في تاريخ المنطقة. ما زلت أذكر القمة العربية الاقتصادية التي حضرتها في شرم الشيخ في أوائل عام 2011، وكانت الأنباء القادمة من تونس منذرة، ورغم الهدوء البادي من القاهرة، فإن الأمين العام عمرو موسى أطلق صيحة تحذير مما سوف يأتي؛ ولكن ما كان قادما أتى على أي حال.
الأمين العام الجديد ربما سوف يبدأ مهمته فعليا بعد انتهاء قمة نواكشوط، لأنه كما قيل جاء من الدار إلى النار بالمسؤولية عن قمة لم يكن هو الذي أعد لها. الآن فإن لديه عاما للإعداد للقمة المقبلة، وأمامه الكثير من الأسئلة الصعبة التي عليه الإجابة عنها، وهي ليست عما يريد هو للجامعة العربية، وإنما عما تريده الدول العربية للجامعة؛ وأيا كان الفارق فإنه يشكل نقطة البداية التي يكون عندها البناء. المرجح أن ما تريده الدول من الجامعة لا يزيد عن كونها نافذة للتعبير عن مصالحها، ولو كانت هذه هي البداية لكانت بداية النجاح، لأن حديث المصالح الصريحة في العلاقات الدولية هو المادة التي يعمل عليها السياسي والدبلوماسي حتى يمكن تشكيل مواقف عامة. إمكانات الأمين العام على أي حال ليست كبيرة، ولكنها مع صغرها تكفي لبلورة المصالح المختلفة، والبحث عما هو مشترك بينها، وحينما تتقاطع أو تتشارك مواقف، فإن في المندوبين الدائمين بعضا من الفائدة للبحث والحوار وتطوير الأفكار وخلق قنوات وتسيير مسارات ثانية وثالثة؛ وباختصار تنشيط حوار سياسي ودبلوماسي فعال حول القضايا الهامة.
هل يمكن أن يكون للجامعة العربية دور في التعامل مع سلسلة المفاوضات الحالية الآن بصدد سوريا واليمن وليبيا؟ نعم وقوامه بلورة موقف عربي مشترك ينضج على نار هادئة. لقد سبق أن أوردنا أفكارا تخص موضوعات التنمية والثقافة والتفكير للدول العربية أو تشجيع مراكز البحث والجامعات على التفكير المشترك؛ ولكن موضوعات «السياسة العليا» سوف تلح على الأمانة العامة ليس من جانب الدول العربية، وإنما من جانب الرأي العام العربي الذي عندما تضيق به المقاصد تذهب أنظاره إلى الجامعة إما لكي يجد لديها حلا أو وجهة نظر، أو أن يلعنها لأنه لا يستطيع لعنة طرف آخر.
جولة نواكشوط رغم كل شيء ربما تكون أكثر جولات أبو الغيط سهولة وأكثرها هدوءا، ولكن الصعب أكثر فيما هو آت، ليس فقط لأن الأزمات العربية كثيرة ومتفجرة، أو لأن ذات الأزمات ينزف منها دم كثير، ويسقط فيها من القتلى ما لا يعد ولا يحصى؛ ولكن لأنها لا تنتهي على حالة مستقرة، والأرجح أنها سوف تستقدم معها جيوشا أجنبية تتفق وتتصارع على الأرض وفي السماء وفي أروقة حكم. ومن يعتقد أن ما مضى كان أكثر أيام العرب صعوبة، ربما عليه أن ينتظر لكي يعرف أن أيام القسوة قادمة.
عبدالمنعم سعيد
صحيفة الشرق الأوسط