هناك الكثير من المتغيرات الفلسطينية والعربية والدولية التي تؤشر إلى تراجع مكانة القضية الفلسطينية في الوجدان الإنساني عموما، وفي قلب الأحداث العالمية والإقليمية بما فيها العربية، دون أن يعني ذلك غيابا كاملا للمؤشرات المعاكسة، التي تنجح في تحقيق اختراقات مهمة؛ لكن غير كافية؛ في بعض الدول أو في بعض حلبات الصراع، كالتي نجح فيها نشطاء الـ BDS. لكن وبنظرة عامة إلى مجمل الصورة العالمية نلحظ مدى تراجع حضور الخطاب الفلسطيني المعبر عن حق تاريخي لا غبار عليه، لصالح خطاب واقعي استسلامي أو تطبيعي يدعو إلى تجاوز الماضي نحو مستقبل جديد يلعب الكيان فيه دورا مركزيا على المستويين العالمي والإقليمي، على حساب الحق الفلسطيني طبعا. وهو ما يدفعنا إلى التساؤل عن أسباب هذا التبدل الصارخ في المفاهيم والمعايير.
فعلى الرغم من إقرارنا بقدرة الاحتلال على فرض روايته المزيفة في المحافل الدولية والعالمية منذ سنوات عديدة خلت، إلا أنه لم ينجح في تشويه القضية الفلسطينية ولجم صوت الحق الفلسطيني على المستوى العالمي، بل تمكنت الرواية الفلسطينية من جذب اهتمام غالبية المجموعات والحركات التحررية العالمية خصوصا في ستينيات القرن الماضي، حتى باتت قضيتنا رمزا عالميا تحرريا جاذبا للعديد من المناضلين من أجل الحرية والعدالة والحق، ومنهم من دفع حياته ثمنا لذلك، كالمناضلة الأميركية راشيل كوري. إذن فمن غير المعقول إلقاء كامل أسباب هذا التحول على العامل الخارجي فقط، متمثلا بالدعم الدولي غير المحدود للاحتلال ولاسيما الدعم الأميركي، بل لا بد من تسليط الضوء على مكامن الخلل الذاتية العديدة والكثيرة والكبيرة التي ساهمت في ذلك، رغم صعوبة حصرها في خضم مقال عابر وسريع، مثل افتقادنا لاستراتيجية وطنية نضالية جامعة، ورِهان الجسم السياسي على العملية التفاوضية كأداة وحيدة لاستعادة جزء بسيط من الحق الفلسطيني، وتحجر البنية السياسية الفلسطينية، مما حال دون الاستفادة من التقنيات والأليات والوسائل الحديثة والعصرية، فضلا عن نبذ البنية السياسية الفلسطينية لأي دور محوري شبابي سواء كان صغيراً أم كبيراً، حتى تحولت المؤسسات الرسمية والفصائلية إلى ما يشبه دُور المسنين والعجزة، وكذلك نتيجة التخلي الرسمي عن الرواية الفلسطينية التاريخية الشرعية لصالح رواية واقعية مجتزأة في خدمة المسار السياسي الاستسلامي الذي راهنت عليه القيادة الفلسطينية كاملة.
لذا أصبح خطاب السلطة الوطنية المجتزأ والمخل بقضيتنا العادلة بمثابة الصوت الفلسطيني الرئيسي وشبه الوحيد؛ إذا ما استثنيا أصوات بعض المجموعات الأهلية المتفرقة، مما شوه القضية وانتقص من قوة حضورها الأخلاقي والقانوني والتاريخي، لصالح خطاب تسويفي مبتذل، ينتمي إلى مدرسة واقعية استسلامية لا تحمل مسؤولية تغيير الواقع، بقدر ما تهدف إلى نيل ما هو ممكن اليوم مهما كان الثمن. وعليه فقدت القضية الفلسطينية مرتكزها الأهم المبني على قوة الحق، وهو ما انعكس تلقائيا على حضورها العربي والإقليمي والدولي، من قضية شعب تعرض ويتعرض يوميا لسياسة تطهير عرقي صهيونية ممنهجة ومنظمة، طرد وشرد وتم الاستيلاء على أرضه وأملاكه، إلى الإقرار بدولة لا شرعية تاريخية لها “إسرائيل” وكأنه نزاع حدودي لا أقل وأكثر. وهو ما يجعلنا موقنين بأن المنظومة الفلسطينية الرسمية الراهنة، ونهجها الاستسلامي، وبرنامجها السياسي القائم على حل الدولتين، وآليتها الوحيدة في تحقيقه متمثلة بالنهج التفاوضي كخيار وحيد وأوحد، تمثل الخلل الرئيسي والأهم لتراجع خطاب الحق الفلسطيني لاسيما على المستوى الرسمي العربي والإقليمي والدولي. طبعا لا نعني بذلك تبرئة أي مظهر من مظاهر التطبيع العربي والدولي الذي يكرس سيادة منطق القوة والجبروت والعنف على حساب منطق الحق والحرية والتحرر، بقدر ما نود الإشارة إلى ضرورة الموازنة بين نقد المظاهر التطبيعية العربية والدولية من جهة، وبين نقد الخلل الفلسطيني الذاتي ومعالجته بأسرع وقت ممكن من جهة أخرى.
حيان جابر
العربي الجديد