ما هو الأمن القومي العربي؟ كيف يمكن تعريفه بداية؟ وما هي تحولاته الراهنة، أو لنقل مستجداته ومضامينه غير التقليدية؟ يشير الأمن كمصطلح إلى انتفاء الخوف، أو انتفاء الخطر، أو غياب التهديد أو الشعور به، بما في ذلك الشعور بالحرمان المعنوي.
والأمن القومي مفهوم توليفي يشير إلى منظومة العناصر التي يتحقق بتوفرها قوام ورخاء الدولة -أو المجتمع- أو الأمة.
والأمن القومي ليس اصطلاحا رديفا للأمن الوطني (في الترجمة العربية)، فهذا الأخير يشير إلى رسوخ النظام العام وعدم تدهوره أو اضطرابه. والأمن العربي هو أمن الدول العربية مجتمعة، في سياق تفاعلها كأمة، وائتلافها كمنظومة إقليمية، في الوقت ذاته.
وبهذا المعنى أيضا، فإن الأمن العربي هو أمن إقليمي، بموازاة كونه أمنا قوميا. والأمن الإقليمي لا يشير -كمفهوم- إلى امتداد جغرافي للأمن القومي للدولة أو الأمة، بل إلى فلسفة مختلفة. ويسمى أيضا أمنا دوليا فرعيا.
ويختزن الأمن القومي العربي-كمفهوم- منظومة عناصر معنوية ومادية، لا بد من توافرها للقول بتحققه أو سلامة بنائه. ويسمى نقيض ذلك بالانكشاف الأمني أو الانكشاف القومي.
ومن هذه العناصر، الموارد الطبيعية المتنوعة، والاكتفاء الذاتي (أو الاكتفاء بنسب ناجزة) صناعيا وزراعيا، وتطوّر القوة العلمية والإبداعية، وسلامة النسيج الاجتماعي والبناء الروحي، وسيادة الأنماط التفاعلية الإيجابية بين الدول العربية، والقدرات الدفاعية الناجزة.
اليوم، يتعرض الأمن القومي العربي لتحديات تقليدية وأخرى مستجدة. من التحديات التقليدية أو القديمة، الأخطار العسكرية، والحروب المحلية المسلحة، والعنف المنظم، والجريمة المنظمة، والانكشاف الصناعي والزراعي طويل الأمد، وسيادة النزعات القُطرية، ووهن العمل القومي، وهيمنة التفاعلات السالبة على العلاقات البينية العربية.
ومن التحديات المستجدة، تفاقم التطرف المناخي وتهديده لمدن وتجمعات سكانية كبرى، وارتفاع منسوب الملوثات المميتة غير المنظورة، وظهور أجيال جديدة من الفيروسات، والأمراض السارية الخارجة عن السيطرة، والتهديد الناجم عن الاستحواذ غير المشروع على المواد النووية والمشعة، وشيوع حالة الغلو والتطرف بين فئات الشباب، وتراجع منطق الاندماج والوحدة الوطنية لمصلحة الانتماءات الرأسية السابقة على فلسفة الدولة والوطن الجامع، أو لنقل السابقة على الهوية الوطنية الجامعة، والمتناقضة تماما معها.
في الفقرات التالية، سوف نتوقف بنوع من الإيجاز مع التحديات المستجدة للأمن القومي العربي، مصنفة ضمن أربعة أبعاد، هي: الأمن البيئي والأمن الحيوي وأمن الأفكار وأمن التعايش الاجتماعي أو الاندماج.
يشير الأمن البيئي إلى فرص السيطرة على الظواهر المناخية المتطرفة وتأثيرها على “الوجودات” النباتية والحيوانية، والكيانات البشرية، والعمران. والأمن البيئي مفهوم عريض، توليفي أو مركب، ذو صلة وثيقة باتجاهات التنمية الاقتصادية والاجتماعية وسلم أولوياتها.
وهل هذا الأمن متحقق عربيا؟ هو في الأصل غير متحقق عالميا، بل هو تحد كبير ومتعاظم بالنسبة للمجتمع الدولي، والأقطار العربية ليست استثناء في ذلك.
هذا القول لا يعني أن دول العالم متساوية في التحدي أو الاستعداد له، فهناك مؤشرات قياسية مطبقة عالميا، تكشف درجة “الشفافية” البيئية، والدول العربية بعيدة عنها في المجمل، مع استثناءات قليلة فرضها الأمر الواقع الجغرافي الذي لا دخل للدول فيه.
فبعض الدول العربية مثلا -ومنها دول خليجية- معرضة لخطر مرتفع لناحية الفيضانات والسيول، ولا توجد سواتر كبيرة تحمي المدن، ولا جدر على نمط الجدر الهولندية.
وهناك، من ناحية أخرى، تراجع كبير ومتسارع لكثير من الحواضن الإحيائية، بما في ذلك حواضن الأسماك التقليدية، كما باتت سواحل المنطقة مصبا أو مستوعبا للمشتقات النفطية. وفي الوقت نفسه، جفت غالبية الآبار الارتوازية، كما الأهوار في حالة العراق تحديدا.
على صعيد الأمن الحيوي، تبرز الأمراض السارية المستعصية كإحدى التحديات التي تفرض نفسها على الأمن القومي للدول العربية، كما الأسرة الدولية عامة.
وتدخل هذه القضية في إطار مقاربة أوسع تعني أيضا بعواقب التطرف المناخي على صحة الإنسان، والأخطار التي يسببها سوء التغذية أو ندرة الموارد، وكذلك الأمراض الناجمة عن الحروب واستخدام الأسلحة المحرمة، وفوق التقليدية والإستراتيجية.
والأمن الحيوي مفهوم حديث نسبيا، ظهرت تأصيلاته النظرية المبكرة بعد الحرب العالمية الأولى، مدفوعة بتجربة استخدام الأسلحة الكيميائية. وحال التحدي البيئي، فإن الأمن الحيوي يُعد هو الآخر تحديا عالميا، بل هو اليوم التحدي الأول للأمن القومي لطيف من دول العالم وأقاليمه.
بالنسبة للوطن العربي، فإن معضلة الأمن الحيوي تجد خلفياتها في وهن البنية الصحية للعديد من أقطاره. وهو وهن قديم مستمر يترجم معضلة تنموية مديدة. وهذه المعضلة مسؤولة ليس فقط عن وهن القطاع الصحي والطبي بل أيضا عن عجز الناس وقلة حيلتهم في أخذ الاستعدادات الكافية لمواجهة ما يرونه خطرا يهدد حياتهم.
وهناك -في الوقت ذاته- وهن في برامج التوعية والإرشاد الصحي، جعلت من الثقافة الصحية شبه غائبة، ليس في الأرياف فقط، بل حتى في المدن. ويضاف إلى ذلك، أن الطبيعة المحافظة لمجتمعاتنا جعلت من التوعية ببعض الأمراض الخطرة بمثابة حرج أو “عيب”.
والأكثر مدعاة للحيرة، أن الدول العربية في غالبيتها لم تقدم أجوبة عن كيفية مواجهة مواطنيها لموجات الحر المفاجئة، كالتي حدثت في صيف العام الماضي، ولا كيفية التصدي للفيضانات، أو حتى الأمطار الغزيرة المفاجئة.
كذلك، ليس هناك من خطط عربية، ولا تعاون عربي يذكر، في مواجهات أمراض مستوطنة قديمة، كالملاريا وحمى البحر المتوسط.
والخلاصة، أن المواطنين العرب لا وقاية لهم مما أفرزه التطرف الإيكولوجي، وأن أمنهم الحيوي في حال لا يحسد عليه. وهذا جزء أساسي من معضلة الأمن القومي العربي.
وماذا عن الأمن النووي وواقع العرب منه؟ حتى اليوم، لا توجد طاقة نووية في أي قطر عربي.. كما ليس هناك بالطبع أية دولة نووية عربية. قد يرى البعض في هذه الحقيقة ما يبعث على الطمأنينة، لكن ليس هذا سوى الوهم بعينه.
إن الطاقة النووية سوف تدخل، في غضون عقد من الزمن، عددا من الدول العربية. وسوف نشهد قريبا مفاعلات نووية قريبا من المدن أو حتى في تخومها. التفكير في أمن هذه المفاعلات يعني التفكير في جوهر الأمن القومي، بل في أصله الأول، وهذه قضية لا تبحث في المستقبل، بل بالضرورة في الحاضر.. إن أي تخريب أو اضطراب في هذه المفاعلات يعني كابوسا لا يُمكن حتى تصوره.
لا بد من الاستعداد على كافة المستويات، بما في ذلك تأهيل الكوادر العربية لتكون هي من يتولى تشغيل هذه المفاعلات. ولا بد من خطط احتراز وحماية شاملة قادرة على التعامل مع كافة الأخطار، بما في ذلك الزلازل، والأعمال العسكرية النظامية، والتخريب من قبل مجموعات متطرفة محتملة. وهذه قضايا لها علاقة بخطط التأسيس والتشغيل والحماية الأمنية العامة.
وفي إطار مقاربة الأمن النووي أيضا، لا بد من خطط عربية واضحة لحماية المواد المشعة من خطر الوقوع في أيدي غير أمينة، وهذه المواد منتشر في الكثير من المؤسسات العامة والخاصة. ومن شأن وصولها لمجموعات متطرفة أن يتسبب في كارثة يذهب ضحيتها مئات الآلاف من الناس.
إن فلسفة الأمن النووي، ومفاهيمه ومضامينه، يجب أن تكون موضع توعية وإرشاد عربي عام. وهذا هو بداية الطريق لتأمين هذا البعد الخطير من أبعاد الأمن القومي.
وماذا عن أمن الأفكار؟
نحن هنا أيضا أمام تحد مستجد، أو جرت إعادة إنتاجه، بحكم صيرورة التاريخ ومنطقه.
هناك بُعدان لأمن الأفكار: يعنى الأول بمواكبة تطورات العصر، ويرتبط الثاني بتحصين الثقافة لتكون أداة بناء.
في البعد الأول، تتبدى الحاجة لسد الفجوة العلمية التي تفصل العرب عن الكثير من الدول. وهذه في الأصل مسألة قديمة، إلا أن الجديد فيها هو بروز “الفجوة الرقمية” كتحد كبير ومتعاظم يشير استمراره إلى انكشاف الأمن القومي العربي على الكثير من الأصعدة، إن لم يكن جميعها.
في البعد الثاني، يبرز تحدي القدرة على المواءمة بين حرية الرأي (أو المعتقد) وأمن المجتمع والدولة، وهذه قضية يُمكن إحالتها إلى أصل فلسفة الحرية. إن التطرف الفكري قد عنى التعدي على حرية الآخرين، وعلى أمنهم أيضا.
هذه القضية، بدت موضع اهتمام عالمي بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، لكنها ظلت أكثر التصاقا بمنطقتنا العربية. وليس ثمة حلول أمنية لمشكلة التطرف الفكري، والمطلوب هو مخاطبة العقل والروح أولا، وذلك دونه جهد إعلامي وتعليمي وتربوي عام، لا بد أن يكون جزءا أصيلا من خطط التنمية البشرية العربية.
هذه معضلة قائمة، ويجب الاعتراف بها اعترافا خلاقا، أي على نحو ينظر إلى الجذور والأسباب، ويتطلع للحلول بعيدة المدى.
أخيرا، تأتي معضلة الاندماج، أو التعايش، كامتداد لمعضلة أمن الأفكار.. وبالقدر الذي ينجح فيه المجتمع في حل هذه المعضلة فإنه يغدو أكثر قدرة على التعايش فيما بينه، كما بينه وبين سائر الشعوب والأمم. وذلك على أساس الاحترام المتبادل الذي يقر بخصوصية الآخر. وهذا جزء أصيل من مقاربة الأمن القومي لأي إقليم أو أمة.
وخلاصة، نحن بصدد أشكال من التحديات، جديدة أو جرت إعادة صوغها وإنتاجها، وهي تفرض نفسها اليوم على الأمن القومي العربي، ولا بد من مقاربتها على نحو كفيل بصون هذا الأمن.
عبدالجليل زيد المرهون
الجزيرة