بعد قرابة تسعة أشهر من توقيع الاتفاق السياسي بين أطراف الحوار الليبي تحت إشراف الأمم المتحدة في مدينة الصخيرات بالمغرب في 17 ديسمبر 2015، وستة أشهر من تشكيل حكومة الوفاق الوطني برئاسة فايز السراج وحصولها على الاعتراف الدولي وانتقالها إلى العاصمة طرابلس، لاتزال الاضطرابات الأمنية في ليبيا سيدة الموقف، فيما المحاولات لإنهاء الخلافات السياسية بين الأطراف تراوح مكانها، ما يشكل عقبة أمام القضاء على الجماعات الإرهابية، وفي مقدمتها “داعش”، وهو ما دفع القوات الأمريكية إلى شن غارات جوية على معاقل التنظيم خلال شهر أغسطس الجاري.
انقسامات سياسية داخلية
عملياً، تبدو ليبيا وكأنها تدار بثلاث حكومات في وقت واحد، لكل منها ذراع عسكرية تحاول من خلاله تحصيل مكاسب على الأرض في مقاتلة الجماعات المسلحة وتصريف ذلك في الصراع السياسي. ففي غرب البلاد، لاتزال “حكومة الإنقاذ”، التي يقودها خليفة الغويل منذ صيف عام 2014، ترفض تسليم السلطة إلى حكومة الوفاق الوطني. وفي الشرق، فإن الحكومة الانتقالية برئاسة عبدالله الثني التي توجد في مدينة البيضاء لاتزال هي الأخرى ترفض السراج، وتتذرع بعدم حصول حكومة الوفاق على تأييد البرلمان المنتخب في طبرق، وهو ما ينص عليه الاتفاق السياسي المُوقع عليه في الصخيرات، لكن البرلمان تعذر عليه عقد جلسة تصويت نتيجة الخلافات المتكررة. فيما تشكل القوات التي يقودها الجنرال المتقاعد خليفة حفتر نوعاً من الدعم العسكري لحكومة الثني. وأمام هذا التناحر بين الأطراف الثلاثة، أصبحت العملية السياسية مهددة بالانهيار في أي وقت.
وجود القوى الدولية في ليبيا
أصبحت الساحة الليبية مسرحاً مفتوحاً لمختلف القوى الإقليمية والدولية، بالنظر إلى التحديات الأمنية الكثيرة المحيطة بها والمنطقة عموماً، ووجود جماعات مسلحة في بلدان مجاورة مثل جماعة بوكو حرام وتنظيم “القاعدة في المغرب العربي”. وبسبب ما تشكله تلك التنظيمات المسلحة من خطر على الأمن المتوسطي، فإن ليبيا شهدت وجود مختلف القوى الدولية بهدف السيطرة على الوضع، والحيلولة دون انتشار عوامل الاضطراب.
وقد أدى سقوط حكومة علي زيدان في مارس 2014، بعد فشلها في الحصول على تأييد البرلمان المؤقت، إلى انفراط عقد المكونات السياسية التي دخلت في صراع بينها، ما عزز من المخاوف من تنامي حدة التهديدات الإرهابية وانتشارها في المحيط الإقليمي لليبيا. ولم تمر سوى بضعة أشهر حتى أعلن الفرع المحلي لتنظيم “داعش” السيطرة على مدينة سرت الساحلية، وجلب مقاتلين من مناطق مجاورة لتحويل المنطقة إلى منصة إطلاق جديدة تعزز مواقع “داعش” في سوريا والعراق. وبات التنظيم يشكل مصدر خطر على القارة الأوروبية، نتيجة عامل القرب من سواحل إيطاليا، واحتمال تسلل مقاتلين تابعين لـ”داعش” إلى أراضيها، خاصةً أن المنطقة تشهد تدفقاً للمهاجرين غير الشرعيين نتيجة الأوضاع الصعبة في البلاد.
وفي حين تنفي الحكومة البريطانية وجود قوات عسكرية لها على الأرض في ليبيا، تتواتر الأنباء عن وجود وحدة خاصة في ليبيا منذ أكثر من عام، بدأت تساعد مقاتلين تابعين لحكومة الوفاق الوطني في الحرب على تنظيم “داعش”.
وعلى الرغم من أن الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس الحالي باراك أوباما بنت استراتيجيتها على عدم التورط في عمليات مباشرة ضد التحديات الإرهابية بهدف تقليل المخاطر وعدم تكرار الأخطاء السابقة، فإن التهديدات التي يشكلها تنظيم “داعش” في العراق وسوريا وليبيا دفعتها إلى اتخاذ موقف جديد ينبني على العمليات العسكرية القصيرة والخاطفة.
أما على الجانب الفرنسي، حيث عانت باريس من العمليات الإرهابية خلال العامين الأخيرين، فقد اضطر فرانسوا هولاند، في شهر يوليو الماضي، للاعتراف بالوجود العسكري لبلاده في ليبيا، حين أعلنت عن مقتل ثلاثة جنود فرنسيين كانوا على متن مروحية في ضواحي بنغازي، أحد معاقل الجماعات المسلحة، لكن مصادر إعلامية ليبية ذكرت فيما بعد أن الجنود قُتلوا نتيجة سقوط المروحية بقصف نفذته جماعة متطرفة تُدعى “قوات الدفاع عن بنغازي”. وفي الشهر ذاته، اعترف هولاند بوجود قوات فرنسية في ليبيا لدعم القوات التابعة للجنرال المتقاعد خليفة حفتر.
وفي الوقت الذي تكثف العواصم الغربية تواجدها العسكري والاستخباري في ليبيا، تراقب روسيا الوضع بطريقة مختلفة. فموسكو التي بقيت بعيدة عن الأوضاع في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لفترة طويلة، باتت تدرك أن التهديدات الإرهابية تشكل مدخلاً مهماً للعودة إلى المشهد الدولي من باب واسع، ولذلك تسعى إلى تسجيل حضور استراتيجي في مواقع النزاع الجديدة مثل سوريا وليبيا، وهي تراهن على هذه الأخيرة من أجل الحصول على نفوذ لها في المتوسط. ولذا فقد انخرطت روسيا منذ بداية الأزمة في دعم الحكومة الانتقالية في الشرق وبرلمان طبرق، لكي يكون لها حضور سياسي مستقبلي في أي ترتيبات تهم مستقبل البلاد. وفي الثاني من أغسطس الجاري، أعلن إيفان مولوتكوف، سفير روسيا لدى ليبيا، رفض موسكو الضربات الجوية التي نفذتها واشنطن على مواقع تنظيم “داعش” في مدينة سرت، مؤكداً أنها تفتقر إلى الأسس القانونية المشروعة، على اعتبار أنها تحتاج إلى صدور قرار واضح من مجلس الأمن.
الغارات الأمريكية وسيناريوهات المستقبل
منذ بداية شهر أغسطس الجاري، شرعت القوات الأمريكية في قصف المواقع التابعة لتنظيم “داعش” في مدينة سرت وضواحيها، بعد أن وصل التهديد الأمني الذي يمثله التنظيم إلى مرحلة دقيقة. وفي محاولة لطمأنة مختلف الأطراف الليبية، وكذلك القبائل المتنوعة، أكدت الإدارة الأمريكية أن التدخل يقتصر على القصف الجوي ولا يطال التدخل البري، كما أنه لن يتجاوز الحدود المرسومة له، وفق الاتفاق الذي تم مع رئيس حكومة الوفاق الوطني فايز السراج.
لكن التدخل الأمريكي الأخير أثار من المشكلات أكثر مما حل منها؛ فقد ارتفعت الأصوات المناوئة لحكومة السراج رافضة للتدخل الخارجي، معتبرة أنه يخدمه سياسياً بعد أن وصلت المعارك ضد “داعش” مراحل متقدمة. وفي بلد توجد فيه حساسية من أي تدخل أجنبي، خصوصاً في ظل غياب حكومة وحدة وطنية، فإن المشاركة الأمريكية في طرد مقاتلي تنظيم “داعش” من سرت قد تزيد من الانقسامات الداخلية بين القوى الليبية والأطراف المتصارعة. وما يظهر حساسية المسألة أن رئيس حكومة الوفاق الوطني، فايز السراج، لم يجد بُداً من استنكار التدخل الفرنسي عندما أعلنت باريس مقتل جنودها الثلاثة علناً، وكان هدفه من ذلك تخليص نفسه من المسؤولية أمام الليبيين الذين خرجوا في تظاهرات احتجاجية.
وتشير المعطيات إلى أن القصف الأمريكي سيكون محط نزاع في المرحلة المقبلة، بحيث ستعمل الأطراف المتصارعة على توظيفه لضرب بعضها البعض، وسيستغله خصوم السراج للتشكيك في ولائه الوطني، ما يفتح الباب أمام أزمات جديدة ربما تعيد عقارب الساعة إلى الوراء، وسيتعين حينها البحث عن تفاهمات جديدة ستكون صعبة في ظل التطورات الراهنة.
كما أن التدخل الأمريكي سيكون ورقة بيد الجماعات المسلحة والفرع الليبي لتنظيم “داعش”، وذلك من أجل جلب المزيد من المقاتلين إلى صفوفه، وتعزيز خطابه الدعائي المبني على شيطنة أي طرف خارجي بدعوى الاحتلال الأجنبي.
وتصبح الصورة أكثر سوداوية في ظل توقعات بتغيير تنظيم “داعش” لاستراتيجيته القتالية في المرحلة المقبلة، نتيجة المعطى الجديد الذي يشكله التدخل الأمريكي، وانكشاف وجود أطراف دولية أخرى. فقبيل بدء القصف الذي سبقه جدل واسع في الساحة الليبية، بدأ مقاتلو “داعش” في الانسحاب من مدينة سرت وضواحيها تحسباً للضربات الجوية، والانتشار في أماكن نائية. وإذا كان ذلك التدخل الأمريكي قد مكَّن من فتح ثغرات في المواقع التي كان التنظيم يسيطر عليها سابقاً والتوغل داخل المدينة، فإن التوقعات تظل محدودة بخصوص ما إن كانت هذه الغارات قادرة على إنهاء وجود “داعش” واجتثاثه.
وأحد السيناريوهات البديلة أمام “داعش” هو اللجوء إلى مدينة مصراتة الواقعة على المتوسط، والتي تبعد عن سرت بحوالي مائتين وخمسين كيلومتراً، للتحصن فيها، وهي منطقة لا يشملها القصف الأمريكي بحسب الاتفاق المعلن عنه بين الإدارة الأمريكية وحكومة السراج. وكانت أنباء قد كشفت قبل أشهر عن أن تنظيم “داعش” قد أقام معسكراً في مصراتة لتدريب مقاتليه الذين وفد بعضهم من بلدان مجاورة، مثل تونس، حيث يُعتقد أن نور الدين شوشان، منفذ عملية متحف باردو بالعاصمة تونس في مارس 2015، يوجد به.
وتنبع المخاوف الأخرى من إمكانية وجود خلايا تابعة لتنظيم “داعش” داخل المناطق الليبية، بما فيها تلك التي تعد آمنة، يمكن أن تقوم بعمليات إرهابية تعيد الوضع الأمني إلى المربع الأول. فعلى غرار “داعش” في سوريا والعراق، الذي نفذ عمليات انتحارية أو تفجيرات مفخخة في العاصمتين دمشق وبغداد، هناك احتمالات قوية لكي يكرر التنظيم المشهد نفسه في طرابلس وبنغازي وغيرهما من المناطق غير الخاضعة لسيطرته، وهو ما يزيد الوضع الأمني سوءاً، خاصةً أن التدخل الأمني، الذي وفر غطاءً سياسياً لمعارضي السراج، قد يوفر أيضاً غطاءً للجماعات المسلحة، بدعوى التدخل الأجنبي، وهي الأوراق التقليدية التي توظفها مثل هذه الجماعات.
إدريس الكنبوري
مركز المستقبل للابحاث والدراسات الاستراتيجية