أصدر الناطق باسم ميليشيات وحدات حماية الشعب الكردية ريدور خليل في 18 أغسطس الحالي بيانا تحدّث فيه عن قيام طائرات النظام السوري بقصف بعض الأحياء في شمال الحسكة وباستخدام المدفعية الثقيلة ومدافع الهاون والرشاشات الثقيلة لاستهداف مراكز تابعة للقوات الكردية في المنطقة. وأشار البيان إلى أنّ “النظام البعثي يقوم بهذه الجريمة لأنّه يرى في هزيمة داعش هزيمه له، وأنّه يعوّل على بقاء داعش لتنفيذ ما تبقى له من مخططاته الدنيئة”.
وفي سياق التراشق الإعلامي والناري مع نظام الأسد، يبدو أنّ الناطق باسم هذه المليشيات الكردية قد نسي تفصيلاً صغيرا، وهو أنّ الأوّل كان قد قام في بداية الثورة السورية بالانسحاب من مناطق واسعة من الشمال السوري وتسليمها رسميا إلى هذه المليشيات الكرديّة، وذلك بغرض خلق مطقة عازلة بينه وبين تركيا وبهدف الضغط أيضا على الأخيرة من خلال الورقة الكردية.
ولم تخيّب مليشيات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني التابعة لصالح مسلّم أمل النظام آنذاك، فقد أثبتت منذ اليوم الأوّل للثورة السورية أنّها اداة هامة جدا بيد النظام السوري، وقامت بمحاربة الأكراد المؤيدين للثورة السورية قبل غيرهم وكذلك بعمليات تصفية عرقية وقومية ضد العرب والتركمان، وسيطرت على مناطق واسعة من الشمال السوري بدعم من نظام الأسد.
في مرحلة لاحقة، إنتقل التبني لهذه المليشيات من قبل نظام الأسد إلى الولايات المتّحدة وانضمت كذلك روسيا بعدها إلى المعادلة دون أن ينقطع التواصل في أي مرحلة من هذه المراحل بين هذه المليشيات والنظام السوري، إذ إنّ الأخير كان مطمئناً إلى المعادلة من خلال الموازنة بين هذه المليشيات وبين تنظيم “داعش”.
وينظر كثيرون إلى المعارك الأخيرة بين المليشيات الكردية وبين نظام الأسد على أنّها نتيجة لتفاهم مفترض بين كل من تركيا ورسيا من جهة وتركيا وإيران من جهة أخرى، لا سيما بعد لقاء أردوغان – بوتين في 9 أغسطس وزيارة وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف إلى أنقرة في 12 أغسطس، وأنّ الهجمات التي يقوم بها الأسد ضد الميليشيات الكرديّة قد جاءت بايعاز روسي- ايراني كي يتم توثيق المثلث الروسي-الإيراني-التركي بما يساعد على تقريب النظام السوري أيضا من أنقرة، من خلال الإشارة الى أهمّية النظام في محاربة هذه المليشيات الكرديّة التي تعتبر مشكلة كبيرة بالنسبة إلى تركيا التي تصنيفها كتنظيم إرهابي.
بمعنى آخر، تأتي هذه الهجمات وفق هذا الإجتهاد في سياق إقناع تركيا بأن فكرة بقاء الأسد ليست بالسوء الذي تتوقعه أنقرة وأنّه من الممكن الاستفادة منه في تسكين الهواجس التركية بخصوص المليشيات الكردية.
نظريا من الممكن جدا أن يكون هناك مثل هذا التفكير أو التوجه لدى روسيا أو لدى إيران حاضرا، لكن عمليّا ووفقا للمعلومات الأكيدة المتوافرة حتى هذه اللاحظة، فإن الجانب التركي لا يزال يتمسك بموقفه من الأسد ويساوي بينه وبين داعش ومليشيات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي مع تمييزه للأوّل بعامل إضافي وهو أنّه سبب كل المشكلة الحاصلة وأنّ الحل يبدأ برحيله.
أضف إلى ذلك أنّه ما زال من المبكر جدا الحكم بأنّ ما يجري هو نتيجة لتفاهم ثلاثي روسي-إيراني-تركي، أو أنّه محاولة من قبل النظام للتقرّب من تركيا، خاصّة أنّه سبق للنظام أن اشتبك عدّة مرات مع المليشيات الكرديّة التي يجمعه بها تقاطع في المصالح ويتم استخدامها كأداة بين الحين والآخر ليتبين في ما بعد أن المعركة بين الطرفين كانت لتحديد نفوذ كل منهما وليس للتقرب من تركيا.
تحوّل هذه الهجمات والمعارك بين الجانبين الى سلوك ممنهج سيثيير بالتأكيد تساؤلات حول صحّة الطرح الأوّل، لكن هناك تفسيرا آخر أو اجتهاد ثانيا أكثر واقعية الآن. فهذه الاشتباكات بين الطرفين تأتي بعد أيام من طرد داعش من مدينة منبج وسيطرة قوات سوريا الديمقراطية عليها بدعم أمريكي، وهو ما يعني أنّ النظام السوري بدأ يلمس تضخّماً في حجم ودور الميليشيات الكردية بما قد يضر في نهاية الأمر بمصلحته ويحرر المليشيات الكردية منه ومن قيوده خاصّة مع التوجّه الواضح لدى لديها للاعتماد أكثر فأكثر على الجانب الأمريكي.
في حسابات النظام السوري، مثل هذه الخطوة (أي الضربات الجوية والمدفعية) لن تلقى معارضة من حلفائه على اعتبار أنّ هناك مصلحة لإيران أيضاً في هذا الأمر، أمّا بالنسبة إلى الجانب الروسي فهو لن يعترض على الأقل لسببين، الأوّل أن الضربة الموجهة لهذه المليشيات هي ضربة غير مباشرة للولايات المتّحدة الأمريكيّة، أمّا السبب الثاني فهو التطبيع الروسي-التركي ومحاولة روسيا الابتعاد قليلا عن هذه المليشيات في مقابل الحصول على تنازلات من الجانب التركي تتعلّق بإغلاق الحدود.
بغض النظر عن الأسباب والمسوّغات، وسواءً أكان ما يجري يندرج تحت الاجتهاد الأوّل أم الاجتهاد الثاني، فإن جلاء الصورة يتطلّب بعض الوقت لا سيما في ظل تخمة التصريحات الرسمية لمختلف الجهات والتي لا تستند في حقيقة الأمر إلى قاعدة صلبة بقدر ما تشكّل عنصر مناورة.