ليست جنائز مقاتلي «حزب الله» وحدها ما تُرسله مشاركة الحزب في القتال في سورية إلى جانب النظام، إلى الجنوبيين والبقاعيين من أهل المدن والقرى الشيعية اللبنانية! فثمة أمر لم يُنتبه إليه كثيراً في سياق التساؤلات عن مدى قدرة هذه البيئة على مد حزب الله بالمقاتلين، وبالتالي استقبال الجنائز.
استدارة الحزب نحو سورية تعني للجنوبيين بالدرجة الأولى أن الجبهة مع إسرائيل قد أُقفلت إلى وقت يُرجح أنه طويل الأمد. لا بل أن الحرب في سورية تفتح العلاقة مع إسرائيل على احتمالات يُفضل الجميع عدم مفاتحة أنفسهم بها.
هذا الشهر احتفل الجنوبيون بمرور عشر سنوات على حرب تموز. والسنوات العشر هذه هي أطول هدنة تعيشها الحدود اللبنانية الإسرائيلية منذ 1973، أي منذ 43 سنة. وفي الشهر نفسه من هذا العام، مني «حزب الله» بهزيمة في حلب، وهو ما فتح شهية الراغبين بالتساؤل مجدداً عن مدى قدرة بيئة الحزب على الوقوف خلفه على رغم الخسائر «المجانية» في سورية.
لمغادرة الحزب الجبهة مع إسرائيل أثمان تقاضاها الجنوبيون، وهم على استعداد لكي يدفعوا في سبيلها قتلى يُقتِرُ الحزب جنائزهم فلا تصل إلى القرى على نحو جماعي، ويُدفن أصحابها من دون ضجيج كبير، خلافاً لما كان يجري لقتلى الجبهة المنطفئة. ذاك أن قتيل الحزب في سورية هو نظير هزيمة أهلية ومذهبية، فيما قتيله مع إسرائيل هو نظير انتصار.
كل هذا لا يُضعف حقيقة أن البيئة صاحبة الجنائز «الفردية» تخففت من جنائز جماعية كانت تفرضها الحروب المتتالية مع إسرائيل. فأن يدفع السكان ثمن «نهاية الحرب» في مناطقهم قتلى متفرقين زمنياً وجغرافياً يسقطون بعيداً من قراهم ومدنهم، فهذا ثمن يبقى أقل من ذاك الذي كانوا يدفعونه حين كانت إسرائيل تجتاح مناطقهم وتدمر قراههم. القتلى في حينه كانوا يتركزون في المناطق المستهدفة فتتمركز الفجيعة في تلك المناطق، أما اليوم فثمة توزيع للجنائز يخفض معدلات الحداد، ويُضعف عموميته.
تقديرات عدد قتلى حزب الله في سورية خلال السنوات الخمس من مشاركته في الحرب فيها، تتفاوت بين ألف وألفي قتيل، وهذه أرقام توازي أرقام حرب واحدة مع إسرائيل استمرت أسابيع. واذا أضفنا إلى هذه المعادلة الخسائر والدمار الهائل في الحالة الثانية، وشمول أعداد القتلى أطفالاً ونساء ومدنيين، تبقى الحسبة لمصلحة المشاركة في الحرب في سورية.
والحال أن أحداً في الجنوب لا يجرؤ على القيام بهذه الجردة، لكن ما يُصاحب المشاركة في الحرب في سورية من صعودٍ لمؤشرات الازدهار الاجتماعي والاقتصادي في جنوب لبنان يدفع إلى هذا الاستنتاج. ذلك أن هذا الازدهار غير مقترن بطفرة اقتصادية، لا بل إن اقتصاد الجنوب غير بعيد من حال الاختناق اللبناني، وإن كان أقل تأثراً فيه من بقية المناطق اللبنانية. فالجديد في أوضاع الجنوبيين هو شعورهم بأن الحرب في بلادهم صارت أمراً بعيداً، وهم في لا وعيهم الجماعي يُقدمون أضحيات في حرب أخرى للمحافظة على هذا الواقع.
لـ «حزب الله» قدرات متعددة على تحصين نفسه في بيئته، وعلى دفع هذه الأخيرة إلى مزيدٍ من التضحيات في سبيل حروبه الكثيرة. الانقسام المذهبي الحاد هو إحدى هذه القدرات، والقوة المالية والاقتصادية أيضاً، ذلك أن الحزب يمتص نسبة كبيرة من القوة العاملة في بيئته. ولكلٍّ من هذين العاملين صورهما في الحياة اليومية في جنوب لبنان. فللانقسام المذهبي مشهد هناك، يتمثل في تزخيم الشعائر وفي استيراد مزيد من الطقوس واستدخالها في الثقافة واللغة اليومية المحلية، وللنفوذ الاقتصادي للحزب صور أيضاً تتمثل في تفريغه آلاف الشبان في أسلاكه القتالية والأمنية والاجتماعية. أما قدرته الثالثة على مد نفسه بحماية اجتماعية ومذهبية فهي حقيقة أن المهمة في الجنوب انتهت، وأن الجبهة انتقلت إلى بلاد أخرى. وهذه معادلة مُعاشة وإن كانت غير مفصح عنها. فالجنوب اليوم غير متجهم على رغم الجنائز، وهذه ليست «بطولة» على ما يرد في أراجيز الممانعة. هو شعور غير مكتمل بالطمأنينة ومترافقٌ مع قابليةٍ لتقديم الأضحيات في سبيله.
المكلومون بقتلاهم هم عائلات في القرى، وليس القرى، والأخــيرة تتضامن مع أمهات القتلى وتصنع لهن الحكايات، لكنها تُدرك أن الفقد لا يصيب الجميع على نحوٍ متساوٍ. وهذا ليـــس هجاءً، إنما هو إخـــراج لما هو مسكوت عنه في العلاقات الأهلية، ولمشــاعر جماعة تعتقد أنها أكثر من دفع أثماناً في الحروب المنقضية، وأن سلام الآخرين كان على حسابها. فمن اللحظات النادرة التي تسمع فيها في جنوب لبنان هجاءً للنظام في سورية، هي تلك التي تُستحضر فيها الـــهدنة الــمديدة في الجـــولان بصـــفتها تعويضاً عن حرب خاضها النظام السوري في لبنان وفي جنوبه.
ليس الضجيج الراهن الذي يصاحب العيش في جنوب لبنان ضجيج الحرب في سورية، وليس صحيحاً ما يُشاع عن أن الجنائز الآتية من سورية تُنغص على الناس سكينتهم. فثمة صعودٌ واضحٌ في مؤشرات العيش مركزه انطفاء الجبهة على حدودهم مع إسرائيل. وقتال «حزب الله» في سورية كان له دور حاسم في بث هذه المشاعر. وميلنا لتنزيه الجماعات عن ميول مضمرة في العيش خارج الملاحم، وإن كان ذلك على حساب الآخرين، يجعلنا نستعجل «ثورةً شيعية» على «حزب الله»، وهذا دأب الكثير من المُخفقين في توقعاتهم. وهو إخفاق يشمل أيضاً توقعاتٍ موازيةً في أن ينتفض «التشيع اللبناني» على مظاهر التشيع الجديد المُستقدم من إيران ومن العراق، على شكل مناسبات دينية مستحدثة وعبارات وأحجيات لم يسبق أن خبرها الجنوبيون. فعل الاستقدام صحيح وجلي، أما توقع الانتفاض عليه فأضغاث أحلام، ذاك أن المُستقدِمين أقوى من المُستقبِلين، وقابلية الأخيرين على امتصاص ثقافة أخرى يُعززها غياب ثقافة جامعة تملك سلطةً وقوةً في آن واحد، وتعززها أيضاً حقيقة أن الجنوبيين كانوا على هامش تلك الثقافة حين كان للأخيرة قوام وعصب.