على مدى السنوات القليلة الماضية، جعلت تقارير الإعلام الأمر يبدو كما لو أن نفوذ روسيا ينمو في منطقة الشرق الأوسط. فبعد كل شيء، ساعد الدعم الجوي الروسي نظام الرئيس السوري بشار الأسد على استعادة اليد العليا في الصراع ضد الثوار في سورية. ثم تحركت تركيا فجأة وبكثافة في اتجاه تحسين علاقاتها مع روسيا -في حين تدهورت العلاقات التركية الأميركية. ثم، في حدث أخير لافت، نفذت القاذفات الروسية الاستراتيجية ضربات جوية في سورية بعد الإقلاع من قاعدة جوية إيرانية.
مع ذلك، تصبح المحددات الاستراتيجية الجديّة التي تواجهها روسيا في موضوع توسيع نفوذها في الشرق الأوسط واضحة تماماً للعيان اليوم. وعلى سبيل المثال، قال المتحدث باسم وزارة خارجية الكرملين إن روسيا وتركيا ما تزالان على خلاف في الشأن السوري. وقال وزير العدل التركي، بكر بوزداغ، إن أي طرف يتهم تركيا بمساعدة “داعش” -وهو ما فعلته موسكو بصوت عال جداً كل الوقت- هو عدو لتركيا. وفي مكان آخر، وفي غضون أيام فقط من السماح لطائرات روسية بالإقلاع من قواعدها، قامت إيران بإلغاء الإذن بالإقلاع من هناك. واتهم وزير الدفاع الإيراني، حسين دهقان، روسيا بـ”خيانة الثقة” بسبب إعلانها عن الاتفاق. وتؤكد هذه المؤشرات المختلفة، وإنما الحاسمة أيضاً، مدى عدم ارتياح كل من تركيا وإيران لفكرة الاقتراب كثيراً من روسيا.
العلاقات الروسية-الإيرانية
تقف روسيا وإيران على الجانب نفسه بالقدر الذي يخص سورية. وهما حليفتان أساسيتان للنظام السوري وتتعاونان عن كثب لضمان بقاء الرئيس الأسد في السلطة. كما تتمتع طهران وموسكو بعلاقات ثنائية وثيقة للغاية في عدد من المجالات. وقد ساعدت روسيا إيران على الساحة الدولية فيما يتعلق ببرنامج إيران النووي المثير للجدل.
ومع ذلك، ثمة نقاش كبير يدورفي داخل إيران حول مسألة الثقة بروسيا. ولا نتحدث هنا عن إصلاحيين في مقابل متشددين، وإنما يجري انعدام الثقة بروسيا عميقاً في داخل مؤسسة إيران المحافِظة. وقبل بضعة أيام فقط، حذر حشمت الله فلاحت بيشه، العضو المتشدد الرفيع في لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية القوية في البرلمان، من أن روسيا قد كشفت في السنوات الأخيرة عن “سياسة خارجية مختلفة ومتقلبة”.
وفي معرض انتقاده لقرار السماح للطائرات الروسية باستخدام قاعدة الشهيد نوجه الجوية الإيرانية، لاحظ المشرع الإيراني أنه كلما وجدت إيران نفسها في مواجهة مشكلة، فقد اصطفت روسيا ضدها. ويدرك الإيرانيون جيداً أن روسيا تنظر إلى إيران كورقة مساومة لانتزاع التنازلات من الأميركيين. وفي الحقيقة، دعمت روسيا الموجة الأكثر حداثة من العقوبات الخانقة التي قادتها الولايات المتحدة ضد إيران في العام 2012، كما أخرت لسنوات عديدة تسليم نظام صواريخ (أس-300) لإيران.
تعود مشكلة إيران مع روسيا في الحقيقة إلى قرون عدة ماضية. وقد خاض الروس والفرس عدداً من الحروب في الفترة ما بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر. وبالإضافة إلى ذلك، قام الاتحاد السوفياتي في العام 1941 (بتنسيق مع بريطانيا) بغزو إيران واحتلالها. وحتى بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، دعم السوفيات إنشاء الجمهورتين الكردية والأذرية قصيرتي العمر، واللتين تم نحتهما من مناطق شمال غرب إيران. ومع أن إيران المعاصرة تُعرف جيداً بعلاقاتها العدائية مع الولايات المتحدة، فإن علاقاتها مع الروس كانت إشكالية جداً أيضاً -ولو بوضوح أقل.
العلاقات الروسية-التركية
منذ اندلاع الحرب الأهلية السورية في العام 2011، وجدت تركيا وروسيا نفسيهما على خلاف وفي تناقض مطرد. كانت تركيا تحاول الإطاحة بالأسد، وداعماً أساسياً لجماعات الثوار المختلفة التي تقاتل النظام السوري المدعوم روسياً. وظلت التوترات محتواة حتى العام الماضي لأسباب عدة -على رأسها حقيقة أن تركيا تعتمد على روسيا في أكثر من نصف حاجاتها من الغاز الطبيعي. ولكن، عندما بدأت روسيا في شن ضربات جوية ضد الثوار الذين تدعمهم تركيا، عمدت الأخيرة إلى إسقاط طائرة روسية في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي.
ومع أن الدولتين تمكنتا من تجنب خوض صراع مفتوح، أصبحت العلاقات التركية-الروسية عدائية للغاية خلال الأشهر الستة التالية. وفي حزيران (يونيو) الماضي، عمل الطرفان على تنقية الأجواء عندما عرض الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تقديم اعتراف مكتوب عن إسقاط الطائرة الروسية. وقد احتاجت تركيا إلى تحسين روابطها مع روسيا لأن علاقتها مع الولايات المتحدة تكدرت بسبب خلافات حول كيفية التعامل مع الشأن السوري، وخاصة قضية التهديد الذي يشكله “داعش”.
ثم جاءت محاولة الانقلاب التركية في 15 تموز (يوليو)، والتي اتهمت تركيا بعدها الولايات المتحدة بالتورط بالنظر إلى تواجد مؤسس حركة غولن في بنسلفانيا. وفي الوقت نفسه، كانت روسيا هي الدولة الأولى التي أصدرت بياناً يدعم أردوغان بعد الانقلاب، وبدا أن الأمور تتجه نحو إعادة ترتيب للسياسة الخارجية التركية.
في الحقيقة، كان هناك حجم هائل من الخطابات التركية المعادية لأميركا في الأسابيع الستة الماضية، بالتزامن مع تدفئة للعلاقات مع الروس. بل إن أردوغان التقى ببوتين في سانت بطرسبيرغ. لكن هذا كله كان من باب المؤثرات الصوتية والبصرية فقط، لأن تركيا -مثلها مثل إيران- لا تستطيع أن تعتمد على روسيا في نهاية المطاف. وقد أوضحت التطورات الراهنة فقط ما كان عليه واقع الحال كل الوقت. فإذا كانت إيران، التي تمتعت بعلاقات عمل وثيقة مع روسيا، لا تستطيع أن تثق تماماً بالكرملين، فإن لدى تركيا مزيدا من الأسباب لكي لا تفعل هي أيضاً. فقد تصادمت المصالح التركية والروسية تاريخياً في منطقة البحر الأسود؛ حيث خاض الطرفان حروباً وتبدلت ملكية الأراضي في كثير من الأحيان. كما أن وكلاء تركيا وروسيا ينخرطون في حالة حرب في هذه الأوقات أيضاً.
لكن الأهم من ذلك هو أن تركيا تحتاج إلى الولايات المتحدة، وهو السبب في أننا نرى أنقرة وهي تتراجع خطوات إلى الوراء عن طلب تسليم فتح الله غولن. وقد نفى وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو قبل أيام أن تكون أنقرة قد اتهمت واشنطن في أي وقت بالتورط في الانقلاب. وتناقش وسائل الإعلام التركية كيف أن الإمساك بغولن لا يستحق العناء. ويعرف الأتراك أنهم يستطيعون تحقيق مصالحهم بصورة أفضل عن طريق العمل مع الولايات المتحدة بدلاً من الغزل العابث مع روسيا.
وفي المقابل، لا تستطيع تركيا أن تعتمد على الولايات المتحدة ببساطة. وقد مدت أنقرة يدها إلى موسكو في جزء منه بسبب الحاجة إلى موازنة الولايات المتحدة. لكن الأتراك قطعوا شوطاً جيداً في الابتعاد عن الولايات المتحدة، وهم يعملون الآن على إعادة التموضع. وينبغي أن تكون إساءة الحسابات أمراً متوقعاً في بلد يتعامل مع تداعيات محاولة انقلابية. وفي نهاية المطاف، وفي حين لن تصبح تركيا قريبة جداً من الروس، فإنها ستحافظ أيضاً على مسافة من الأميركيين.
هذه التطورات تبين كيف أن الروس يظلون في أفضل الحالات لاعباً ثانوياً في الشرق الأوسط. وهكذا، وبالنظر قدماً، سيكون من الأكثر أهمية مراقبة ما ستفعله القوتان الإقليميتان الحقيقيتان؛ تركيا وإيران، في شأن التصالح بينهما، ومع مستقبل الشرق الأوسط.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Russia’s Illusion of Influence in the Middle East
كمران بخاري – (جيوغرافيكال فيوتشرز) 23/8/2016
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
جريدة الغد الاردنية