على مدى أعوام كانت الصين تتّخذ موقفا متوازنا فيما يتعلّق بسورية. فقد كانت تدعم الجهود الدبلوماسية لإنهاء الصراع، لكنها رفضت الانجرار إلى الصراع المُشتعل الذي يُهدد بأن يأتي على منطقة الشرق الأوسط.
لكن زيارة لسورية من جانب مسؤول بارز في جيش التحرير الشعبي، في 14 آب (أغسطس) الماضي، عكست فيما يبدو محاولات الصين الحذرة للابتعاد عن الخيوط المتشابكة في سورية. وأثارت أيضاً تساؤلات أوسع عن عزوف بكين منذ فترة طويلة عن التدخل العسكري في الصراعات الخارجية. الأدميرال جوان يوفي، المسؤول البارز في جيش التحرير الشعبي، التقى كبار المسؤولين السوريين في دمشق، ووعد بزيادة المساعدات العسكرية والتدريب للقوات الحكومية. والتقى أيضاً جنرالا روسيا بارزا، مؤكداً بداية شراكة مع موسكو في الشؤون العسكرية. في حين إن الزيارة حافظت على صفة عادية، إلا أنها كانت غير عادية للغاية إلى درجة أنها أخذت حتى المختصين الصينيين على حين غرّة. يقول تشا داوجيونج، المختص في شؤون الشرق الأوسط في جامعة بكين، مُشيراً إلى رحلة جوان إلى سورية “وسط كل هذه الفوضى، جيش التحرير الشعبي يُقدِم إلى حد ما على مغامرة في سورية. آمل ألا يذهب جيش التحرير أبعد من التقاط الصور، أو أشكال أخرى مجزأة من الدبلوماسية العسكرية. الولايات المتحدة ورسيا تواجهان تحدّيات هائلة في سورية. ما الذي يجعلنا نعتقد أننا سنحظى بأي نجاح أكثر”؟
الزيارة – والجدل الذي أثارته – تُقدّم برهانا صارخا على الطريقة التي تتم بها إعادة النظر في عدد من محرّمات السياسة الخارجية منذ فترة طويلة في الصين في عهد الرئيس تشي جينبينج. فعلى مدى عقود من الزمن، كانت الصين تتحدث عن عزوفها عن السياسة الواقعية التقليدية – بما في ذلك التدخل العسكري الأجنبي، وبناء قواعد أجنبية، وتطوير مناطق نفوذ، وخلق مناطق عازلة، وتشكيل تحالفات – باعتبارها مخلفات عتيقة من النزعة الاستعمارية.
“الهيمنة أو النزعة العسكرية ليست في جينات الصين”، كما قال الرئيس تشي في حزيران (يونيو) 2014 عندما احتفل، جنباً إلى جنب مع مسؤولين من ميانمار والهند، بالذكرى الـ 60 “للمبادئ الخمسة للتعايش السلمي” التي تم التوقيع عليها عام 1954. ومع أن التزام بكين بهذه المبادئ كان متفاوتاً في أحسن الأحوال – الهند والصين خاضتا حربا على الحدود بعد ذلك بثمانية أعوام – إلا أنها استمرت في إلهام عدة عقود من السياسة الخارجية. دينج شياو بينج، الزعيم السابق، وصف سياسته الخارجية بأنها قائمة على “الابتعاد عن الأنظار” في الشؤون الدولية من أجل التركيز على النمو الاقتصادي.
تطويع المبادئ
لكن منذ تولّي تشي السلطة عام 2012، أظهر سياسة خارجية جديدة. في تشرين الأول (أكتوبر) 2013، دعم سياسة “السعي إلى تحقيق إنجاز” في الشؤون الخارجية “فينفايوواي” ما يُشير إلى موقف أكثر حزماً.
يقول بول هاينلي، رئيس مركز كارنيجي تسينجوا في بكين “منذ أن أصبح تشي جينبينج رئيساً لم يعُد هناك حديث عن الابتعاد عن الأنظار. إذا ناقشت الأمر مع الصينيين فسيقولون إنهم لم يتخلّوا عن ذلك المفهوم، لكن الحقيقة من وجهة نظري هي أنهم فعلوا”.
وعن مبدأ عدم التدخل في الخارج، يقول “إنهم يصرّون على أنهم يلتزمون به، لكن إذا جلست لبضع دقائق يُمكنك التفكير في 15 مثالا حيث لم يعودوا يفعلون ذلك”.
في الفترة الأخيرة تم كسر أحد المحرّمات التي تم الالتزام بها لفترة طويلة، عندما افتتحت الصين قاعدة بحرية في جيبوتي هذا العام – أول قاعدة عسكرية خارجية لها منذ سحب قواتها من كوريا الشمالية عام 1958. العزوف المُعلَن عن مناطق النفوذ يبدو أنه يتآكل، أيضاً، وسط مطالبات بكين الحازمة في المياه الإقليمية في بحر الصين الجنوبي والمجال الجوي فوق بحر الصين الشرقي.
قانون جديد لمكافحة الإرهاب صدر في نهاية عام 2015 يُضفي، للمرة الأولى، الشرعية على إرسال القوات الصينية في مهمات قتالية في الخارج بدون تفويض من الأمم المتحدة. ويُعتبر هذا من قِبل كثيرين تمهيدا لمزيد من العمليات العسكرية الخارجية. وهناك قانون آخر صارم – عدم الانحياز – هو الآن موضوع جدل حاد في الصين. نبذت الصين التحالفات منذ انهيار التحالف بين الصين والاتحاد السوفياتي في الستينيات، الذي أدّى إلى حرب قصيرة على الحدود بين البلدين في عام 1969. والآن تحتضر معاهدة دفاع مع كوريا الشمالية تم إبرامها عام 1961، بعد أن تنكّرت لها بكين علناً في عام 2013.
لكن على الرغم من الأداء المتباين لتحالفات الصين الماضية، كان عدد من العلماء البارزين يحثّون بكين بشدة على إعادة النظر في الفكرة.
يقول شو جين، أستاذ العلاقات الدولية في الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية “موضوع التحالفات هو موضوع عديد من المفاهيم الخاطئة من قِبل الحكومة والجمهور”. ويرى أن الصين ترتكب “خطأ فادحا” بعدم التحالف مع بلدان مثل روسيا التي تستاء، كما تفعل بكين، من النظام العالمي الذي تُهيمن عليه الولايات المتحدة.
وكتب شو في مقالة في كانون الأول (ديسمبر) 2015 في مجلة السياسة الخارجية الصينية التي تصدر باللغة الصينية “بالنظر إلى جميع أنحاء العالم منذ عام 1648، لم تكُن هناك أبداً قوة عظمى واحدة انتهجت سياسة رفض التحالفات. الصين بحاجة إلى تعلّم فن إدارة التحالفات للحصول على ميزة وخلق توازن القوى”.
ويعتقد على نطاق واسع أن قائد الحركة المؤيدة للتحالف هو يان شيتونج، مدير معهد العلاقات الدولية الحديثة في جامعة تسينجهوا في بكين.
عدم الانحياز، كما يُجادل يان “كان مناسباً لبلادنا خلال الحرب الباردة عندما كانت ضعيفة. لكن في العقد المُقبل، الصين لن تكون البلد الضعيف الذي كانت عليه”. وكتب في كتاب نُشر العام الماضي “أن التمسّك باستراتيجية عدم الانحياز لن يكون فقط غير مفيد، لكن من المحتمل أن يكون ضارا”.
آراء المختصين
تاريخياً، ظهرت الإشارة على التحوّلات في السياسة الخارجية أول مرة من قِبل مختصين مدنيين. مثلا، في تموز (يوليو) من عام 2010، قبل خمسة أعوام من فتح الصين قاعدتها العسكرية الأولى في جيبوتي، كتب شين دينجلي، رئيس مركز الدراسات الأمريكية في جامعة فودان، مقالاً على موقع China.org بعنوان “يجب ألا نتجنّب فكرة إنشاء قواعد عسكرية في الخارج”.
يقول شين “في رأيي أن حجة حكومتنا حجة سخيفة. وجود قدرة مثل قاعدة في الخارج لا يعني أنك مصدر تهديد بشكل تلقائي”. ويعتقد أن عدم وجود رد فعل دولي على مقالته التي نُشرت باللغة الإنجليزية، ربما كان العامل في القرار الصيني بالمضي قُدماً في قاعدة جيبوتي.
الآن، مع تزايد الخلافات مع الولايات المتحدة واليابان وبلدان أخرى في الفناء الخلفي للصين، فإن الضغط على بكين للمشاركة في السياسة الواقعية الأكثر تأكيدا يأتي مرة أخرى من صفحات المجلات والمقابلات الصحافية مع المختصين.
وكانت الولايات المتحدة قد تحدّت بقوة في الآونة الأخيرة مطالب الصين في المياه الإقليمية في بحر الصين الجنوبي، من خلال إبحار السفن وتحليق الطائرات بالقرب من عدد من الجزر الاصطناعية التي تُطالب بها بكين.
ووقّع الفلبينيون اتفاقا هذا العام يمنح واشنطن إمكانية الوصول إلى خمس قواعد عسكرية، الأمر الذي يعد علامة على عودة القوات الأمريكية إلى البلد الذي غادرته بعد عام 1992. وتسعى الولايات المتحدة أيضاً إلى الوصول إلى المرافق البحرية في خليجي كام رانه ودانانج في فيتنام، وستكون هذه أول عودة عسكرية إلى البلاد منذ سقوط سايجون في عام 1975. كذلك اتفقت سيئول وواشنطن على تأسيس نظام مضاد للصواريخ الباليستية في كوريا الجنوبية. وتُجادل بكين بأن النظام – المعروف باسم “تيرمنال هاي ألتيتيود إريا ديفينس” – يُمكن أن يصل إلى عمق الصين ويُضعف نظام الردع النووي الخاص بها.
في الإطار نفسه، مستقبل دستور اليابان السلمي ما بعد الحرب غير مؤكد أيضاً، لأن طوكيو تشعر بالضغط من الحشد العسكري في الصين. وتزيد بكين الإنفاق على الدفاع بأرقام من خانتين من حيث القيمة الاسمية سنويا، منذ ما يُقارب ربع قرن. ويقول تشيماكو ماسو، وهو أستاذ مُشارك في جامعة كيوشو “عودة الشؤون الجيوسياسية هي أمر حقيقي في هذه المنطقة. والقوة الدافعة هي صعود الصين”.
والمسائل الجيوسياسية الآسيوية تُحدث آثارا جانبية في أماكن أخرى في العالم، بما في ذلك سورية. دينس وايلدر، الذي كان في السابق يشغل منصب نائب المدير المُساعد في وكالة المخابرات المركزية لمنطقة شرق آسيا، الذي يُدّرس الآن في جامعة جورجتاون، يعتقد أن انفتاح بكين على نظام الأسد من المرجح أن يكون قد حصل على الإلهام من لعبة النفوذ في آسيا بقدر أي اهتمام حقيقي في الشرق الأوسط.
ويقول “أعتقد أن هذا جزء من انتقام الرئيس تشي من الولايات المتحدة” بسبب التدخل في بحر الصين الجنوبي ونظام تيرمنال هاي ألتيتيود إريا ديفينس. ويتابع “غالباً ما يحاول الصينيون، عندما يستاءون من أعمالنا التي تؤثر في مصالحهم الرئيسية، أن يظهروا أن لديهم القدرة على جعل الحياة صعبة بالنسبة إلينا في منطقة تقع خارج مصالحهم الرئيسية لكنها مصدر قلق كبير بالنسبة إلينا”.
البحث عن تحالفات
إذا استمرت المواجهة بين الصين والولايات المتحدة، يرى مختصون في العلاقات الدولية أن بكين يُمكن أن تحاول تشكيل تحالف ضد الولايات المتحدة. يقول سومانترا مايترا، وهو باحث في مرحلة الدكتوراه في جامعة نوتنجهام في المملكة المتحدة “تاريخيا أي قوة صاعدة، عندما تميل إلى تحقيق التوازن أمام قوة مُهيمنة، أو عندما ترغب قوة قائمة في تحقيق التوازن أمام صعود أحد الأقران، أول ما تفعله هو تشكيل تحالف. ليس هناك سبب للاعتقاد أن الصين ستتصرف بطريقة مختلفة”.
التساؤل هنا، من الجهة التي ستتحالف معها؟ كوريا الجنوبية واليابان والفلبين لديها في الأصل تحالفات مع الولايات المتحدة، في الوقت الذي تشعر فيه فيتنام وإندونيسيا ودول أخرى لديها مطالبات في بحر الصين الجنوبي بجفوة تجاه الصين، بسبب ما تعتبر أنه سلوك بكين الأخرق. يقول ريتشارد بيتزينجر، من كلية إس راجاراتنام للدراسات الدولية في سنغافورة “إن أنشطة الصين، خاصة في بحر الصين الجنوبي، تعمل على إبعاد البلدان عنها، وليس تقريبهم منها”.
وهناك تباعد فوق الحد بين الصين والهند بسبب النزاعات الحدودية ودعم الصين لباكستان. وآسيا الوسطى، رغم مبادرة بكين الاقتصادية “حزام واحد، طريق واحد”، تعتبر جزءا من نطاق النفوذ الروسي. وهذا يبقي باكستان وكوريا الشمالية وروسيا، جنبا إلى جنب مع ميانمار ولاوس وكمبوديا، التي تتلقى مساعدات عسكرية من الصين.
ومن بين تلك البلدان، تعتبر روسيا الدولة الوحيدة التي يمكنها تقديم تحالف يتمتع بأي قوة رادعة. في الواقع، يخشى كثير من المختصين الأمريكيين من وجود “محور” جديد بين روسيا والصين.
لكن سيكون من الصعب قياس الآثار الاقتصادية المترتبة على تحالف مع روسيا معادٍ للولايات المتحدة: وفقا لمكتب الممثل التجاري الأمريكي، بلغت قيمة التجارة مع الولايات المتحدة في كل من الصادرات والواردات 659 مليار دولار العام الماضي، مقارنة بـ 64 مليار دولار فقط وفقا لبيانات الجمارك الصينية الخاصة بروسيا.
في حلقة نقاش في معهد بروكينجز في واشنطن في تموز (يوليو) الماضي، قال ستيبلتون روي، وهو سفير سابق للصين “إن العلاقة الاقتصادية مع الولايات المتحدة أكثر أهمية في الأساس للصين من العلاقة مع روسيا. والصين لا تنسى هذا”.
بدلا من إقامة تحالف، يبدو أن البلدين يتعاونان على أساس أغراض مخصصة. اجتمع كل من تشي والرئيس فلاديمير بوتين 17 مرة منذ مطلع عام 2013. في العام الماضي، أرسل تشي رئيس المكتب العام للحزب الشيوعي، لي جانشو، إلى روسيا، جاعلا العلاقة مع بوتين في أعلى مرتبة على صعيد الاتصال بالمسؤولين الأجانب. ولي من الناحية العملية هو كبير موظفي تشي.
ولاحظ المختصون منذ ذلك الحين حدوث ارتفاع في الاتصالات الدبلوماسية متوسطة وعالية المستوى بين الصين وروسيا – ومزيد من التمارين والتدريبات العسكرية المشتركة. وفي حزيران (يونيو) أجرت الدولتان مناورات بحرية منسقة على ما يبدو بالقرب من الجزر المتنازع عليها في بحر الصين الشرقي. وتعتزم الدولتان إجراء تدريبات بحرية مشتركة في بحر الصين الجنوبي في وقت لاحق هذا الشهر.
يقول لي تشينج، مدير مركز الدراسات الآسيوية – الأوروبية في جامعة بكين للأبحاث العامة “تواجه الصين توترا متزايدا في بحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي وتشعر بالضغوط الخارجية. في الوقت نفسه، تواجه روسيا ضغوطا من الغرب بخصوص قضايا مثل أوكرانيا. والبلدان يتعاطفان مع بعضهما بعضا”.