تحدثت في مناسبات عدة، بخاصة في الكلمات والمحاضرات التي ألقيتها أثناء ترؤسي اتحاد المصارف العربية، عن ضرورة أخذ خصوصية أوضاع المصارف العربية في الاعتبار عند تطبيق التشريعات الدولية ومنها تشريعات «بازل 2 و3».
ونحن ندرك أن «لجنة بازل» أخضعت معاييرها للمشاورات الدولية الواسعة مع الجهات الرقابية والمؤسسات المالية قبل أن تقوم بإصدارها، ومع ذلك، فلا يمكن للجنة أن تستوعب كل الملاحظات والاقتراحات التي تصل إليها. ولذلك، فهي عادة تضفي بعض المرونة على تطبيق معاييرها سواء من حيث النطاق أو من حيث الآجال الزمنية.
لاحظنا في شكل خاص خلال الندوات والمؤتمرات التي عقدت تحت مظلة اتحاد المصارف العربية أو غيره من الجهات، أن جانباً أساسياً من القصور يعتري التشريعات الدولية، ومنها تشريعات «بازل»، ويحد من قدرتها على استيعاب خصوصيات وسمات الدول التي تطبق فيها، وهو أن هذه التشريعات لا يتم التأسيس لها وشرحها وتبريرها من الناحية النظرية بصورة شاملة ومتكاملة، أي أنها تأخذ الجانب التشغيلي أكثر منه الجانب المفاهيمي والمؤسسي، ما يجعلها ترتبط وتتأثر ببيئة تشغيلية معينة هي البيئة التي تم تطويرها فيها بينما تغفل خصائص البيئات التشغيلية الأخرى التي سوف تطبق فيها. بينما وضع الإطار المفاهيمي والمؤسسي لهذه التشريعات، يجعل منها منطلقات أو مبادئ توجيهية يتم تطبيقها وفقاً لمختلف البيئات المصرفية.
ونحن هنا نفرق بين التشريعات التي تصاغ على مستوى كل بلد، وفي هذه الحال يجب أن تخضع للبيئة التشغيلية التي ستصدر فيها، وبين التشريعات الدولية التي ستعمم على كل البلدان، وهنا يجب وضع إطار مفاهيمي لها كمبادئ توجيهية وكي تراعي عند تطبيقها البيئات التشغيلية المحلية لمختلف البلدان عند تطبيقها.
أما إذا نظرنا إلى موضوع التشريعات المصرفية على المستوى المحلي، فنحن نرى أن البيئة المصرفية هي في نهاية المطاف عبارة عن سياق اجتماعي يتألف من الخاضعين للرقابة (المصارف)، والمنظمين (المصارف المركزية)، والمساهمين والمودعين والدائنين والجمهور العام. كما أن هذه البيئة محكومة بجملة من المدخلات مثل التكنولوجيا والعنصر البشري والوضع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي السائد ….إلخ.
فعلى سبيل المثل، عندما يقوم البنك المركزي بوضع أي تشريع يتعلق بعمل المصارف، فإنه حتماً سيتأثر بالبنية التحتية التكنولوجية لديه ولدى المصارف، والجدارة المصرفية، والوضع السياسي والاجتماعي، والأهداف الاقتصادية الاستراتيجية. وهذه بدورها تتأثر بالهيكل السياسي والمؤسسي للبلد ككل. وإضافة الى ذلك، فإن أي خلل أو إخفاق في واحد من هذه العناصر المحيطة أو بعضها سيؤثر بدوره على تطبيق المصارف للتشريعات الموضوعة من قبل البنك المركزي، ويحتمل أن يؤدي ذلك إلى تأثير سلبي على فئة أخرى مثل المودعين في حال فشل البنك في البقاء قادراً على السداد ولديه السيولة.
كما إن كلاً من المصارف والجهات الرقابية ينظر إلى التشريعات والرقابة المصرفية في شكل مختلف عن الآخر. فالمصارف تنظر للتشريعات وتتفاعل معها من منظور تحقيق أقصى قدر من الأرباح، وزيادة محافظ الإقراض والاستثمار، وزيادة حصتها في السوق، والتفوق بذلك على منافسيها، وجذب مزيد من الودائع، وما إلى ذلك. كما أن الأولويات التي تضعها الإدارات التنفيذية للبنوك لأهدافها التي تريد تحقيقها من تلك التشريعات ستختلف تبعاً لثقافة مجلس إدارتها وإدارتها التنفيذية ورؤيتها وفلسفتها وإن كان معظمها يشترك تقريباً في الأهداف ذاتها. من جهة أخرى، تنظر المصارف المركزية إلى التشريعات وتقوم بتطويرها من زاوية حماية البيئة السياسية والاقتصادية الكلية للبلد، فضلاً عن طمأنة الرأي العام لتجنب الذعر وعدم الثقة في النظام السياسي والاقتصادي القائم. لذلك، فإن الجهات الرقابية التي تضع التشريعات يجب ألا تقتصر على دراسة تحقيق الأهداف التي تنظر إليها من زاويتها الخاصة بل تلك التي تتوقع المصارف تحقيقها أيضاً. وليس ذلك فحسب، بل على المصارف المركزية درس البيئة التشغيلية المحيطة بالمصارف والتي سبق أن ذكرناها مثل التطور التكنولوجي والبشري والموارد المتوافرة والمناخ السياسي والاجتماعي والوضع الاقتصادي، كي يتم توفير مستلزمات النجاح وعوامله لتطبيق التشريعات قدر الإمكان.
نستخلص مما سبق أن وضع التشريعات على المستوى المحلي يجب أن ينظر إلى البيئة التشغيلية، أما على المستوى الدولي فيجب عدم التركيز على بيئة تشغيلية معينة، كما يجب ألا نقصر دراستنا عند وضعها على مجموعة من المعادلات والقواعد الرياضية وعلاقاتها وفاعليتها لتحقيق مجموعة من الأهداف التي وضعتها الجهات الرقابية، إذ لا يمكن تفسيرها بواحدة أو اثنتين من النظريات. كما لا يمكن تبريرها على خلفية ضابط واحد فقط مثل الخصائص الاقتصادية للبيئة التشغيلية، لأنها ستكون متفاوتة بين بلد وآخر. وعندما تقوم الجهة الرقابية في بلد ما بتطبيق تشريعات دولية مثل مقررات «بازل» يجب أن تدرس تطبيق هذه التشريعات في إطار السمات الثقافية الفريدة للبيئة التشغيلية للبنوك في بلدها. إضافة الى ذلك، فإن الخصائص المؤسسية داخل كل بلد يجب أن تدرس بجدية من قبل الجهة الرقابية المصرفية، قبل فرض تفاصيل التشريعات الدولية في هذا البلد.