تتعامل تقارير الأخبار مع قصة استيلاء طالبان على مناطق عدة في عموم أفغانستان وكأنه تطور ما كان يجب أن يحدث. والافتراض الكامن وراء ذلك هو أن طالبان ما كانت لتعاود الانبعاث مجدداً لو أن القوى السائدة لم تكن فاسدة، ولو أنها تصرفت بشكل ديمقراطي. وثمة ميل عام إلى تجاوز واقع أن أفغانستان مبتلاة بمشكلة أعمق كثيراً -ليس هناك اتجاه سائل من الأساس، ليس اتجاهاً متماسكاً على الأقل. وفي الحقيقة، صحيح أن جماعة طالبان عنيدون ومشاكسون، لكنهم يظلون القوة الوحيدة المتماسكة الأكبر في البلد.
على مدى الأشهر العديدة الماضية، لم يكن هناك نقص في التقارير عن مقاتلي طالبان الذين يشنون هجمات مضادة في أجزاء مختلفة من البلد. وفي الأسابيع القليلة الماضية، أصبح الوضع أكثر قتامة. وبعد اجتياح القوات في مناطق عدة في جنوبي مقاطعة هيلمند، تهدد الحركة الجهادية الأفغانية العاصمة الإقليمية، لاشكار غاه. لكن المقاطعة توجد في قلب منطقة طالبان في جنوب البلد.
حتى التقرير الذي ذكر يوم 29 آب (أغسطس) أن مقاتلي طالبان استولوا على منطقة جاني خيل في شرق مقاطعة باكتيا لا يعد شيئاً كبيراً. فبعد كل شيء، تقع باكتيا على الحدود الشرقية مع باكستان -البلد الذي تتمتع فيه طالبان الأفغانية بملاذ آمن. لكن اللافت أكثر من أي شيء آخر هو أن طالبان اكتسحت مناطق في شمالي مقاطعات قندوز وتاكهار وباغلان، وهي ناشطة جداً في كل من المقاطعات الممتدة على طول حدود البلد مع طاجكستان وأوزبكستان وتركمانستان. ولم يقتصر الأمر على قدرة طالبان الباشتونية في جزئها الضخم على التقدم إلى داخل مناطق تهيمن عليها الأقليات الإثنية في البلد (الطاجيك والأوزبك والهازارا والتركمان…إلخ) وهم يفعلون ذلك بينما ينشطون بالتزامن في معاقلهم التقليدية في الجنوب وفي الشرق.
سوف يعزو العديدون المكاسب التي حققتها طالبان إلى خفض عديد القوات الأميركية وقوات الناتو الذي كان قد بدأ في العام 2014، وصحيح أن المجموعة المتمردة استفادت من الفراغ الذي خلفته القوات الغربية المنسحبة. ولكن، ما الذي يقوله ذلك عن حالة الحكومة الأفغانية التي أسستها الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون بعد طرد نظام طالبان في أواخر العام 2001؟ تقول الحكمة السائدة إن جمهورية أفغانستان الإسلامية (التي حلت محل إمارة طالبان الإسلامية في أفغانستان) تظل ضعيفة.
لكن ما لا يريد معظم المراقبين الإقرار به هو أن الدولة التي أنشأها الغرب، بكلفة بلغت 100 مليار دولار على الأقل، لم تتجذر في واقع الأمر في البلد. وقد أصبحنا الآن على مسافة 15 عاماً من بعد هجمات 11 أيلول (سبتمبر) التي شرعت بعدها الولايات المتحدة في مهمة بناء الدولة في ذلك البلد الآسيوي الجنوبي الغربي، لكن أداء حكومة أفغانستان يُظهر أن ذلك الجهد لم ينجح. نعم، لقد قطعنا طريقاً طويلاً منذ العام 1996 عندما كانت طالبان قادرة على الدخول إلى كابول.
ليس ذلك على وشك الحدوث مرة أخرى، لكن هذا لا يهم في حقيقة الأمر. فجوهر أفغانستان لم يتغير كثيراً منذ طرد الحكومة الشيوعية في العام 1992 -بعد ثلاثة أعوام من انسحاب القوات السوفياتية في العام 1989. وفي واقع الأمر، ما تزال الحرب التي بدأت في العام 1979 مستمرة، ومن المرجح أنها ستتواصل في المستقبل المنظور.
لماذا؟ لأنها لم تكن هناك حكومة فعالة في البلد منذ الإطاحة بالرئيس محمد نجيب الله في نيسان (أبريل) 1992. وما تبقى من الدولة بعد عقد من الحرب تبخر في الأعوام الأربعة التالية من الأعمال الحربية بين المتمردين الإسلاميين الذين كانوا متحدين ضد الشيوعيين. وكانت حركة طالبان التي ظهرت من رحم تلك الحرب الإسلامية الداخلية قادرة على فعل ذلك لأنها لم تكن هناك أي مؤسسات يمكن الحديث عنها -مجرد فوضى عارمة. وتبع ذلك حكم طالبان من العام 1996 وإلى العام 2001؛ حيث تمكن تنظيم القاعدة في ظله من تأسيس مقراته العالمية في البلد، وخطط لهجمات 11/9 ونفذها. أما الباقي، فتاريخ.
النقطة الأساسية هي أن أفغانستان لم تشهد وجود دولة منذ أواخر الثمانينيات. وكانت آخر دولة جديرة بالذكر مزيجاً من ملكية أفغانية حكمت بلا انقطاع لجيلين (1933-1973) تبعها النظام الجمهوري الذي لم يدم طويلاً بقيادة الرئيس ساردار محمد داود خان (1973-1978)، ثم النظام الشيوعي لحزب الشعب الأفغاني الديمقراطي (1978-1992). ولم يكسب أولئك الذين هدم قتالهم الداخلي آخر دولة أفغانية متماسكة السلطة حتى احتاجهم الغرب ضد طالبان في أعقاب هجمات 11/9. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الفصائل بددت الفرصة التي أتاحها لها العقد ونصف العقد الماضيين.
وهكذا، تظل طالبان القوة المفردة الأكثر تماسكاً، بينما يظل معارضو الحركة الجهادية منقسمين بحدة. وكان الرئيس السابق حامد كرزاي قادراً على حكم البلد 12 عاماً بفضل دعم قوي من القوات العسكرية الغربية. وجاء خلفه، الرئيس أشرف غاني، إلى السلطة عندما كانت قوات حلف الناتو بصدد الخروج من البلد. وبالإضافة إلى ذلك، لم يستطع غاني كسب تفويض مريح. وقد ادعى منافسه ومتحديه، وزير الخارجية السابق عبد الله عبد الله، وجود خدعة في الانتخابات الرئاسية في العام 2014.
نتيجة لذلك، توسط وزير الخارجية الأميركية، جون كيري، في التوصل إلى اتفاقية شراكة في السلطة بين غني وعبد الله والتي أفضت إلى أن يصبح الأول رئيساً والثاني الرجل التنفيذي الرئيسي. لكن ذلك الترتيب لم يؤت ثماره؛ حيث ظل القائدان المتنافسان في نزاع. وهكذا، كان أولئك الذين من المفترض أن يكونوا متَّحدين في كفاحهم ضد طالبان متنازعين مع بعضهم بعضا. وفي الجوهر، هناك معسكران في البلد، طالبان ومناهضو طالبان.
يقول ذلك الانقسام مجلدات عن المشاكل التي تعصف بالبلد. وما تزال طالبان متماسكة -أكثر أول أقل- على الرغم من المنافسات الداخلية في أعقاب وفاة مؤسس الحركة الملا محمد عمر وخلفه الأول الملا محمد أختر رسول (الذي كان قتل في غارة أميركية نفذتها طائرة من دون طيار قبل شهور عدة). ولا يعني هذا قول إن طالبان على وشك استعادة السيطرة على البلد.
ما تزال القوات الجوية الأميركية وقوات الأمن الوطني الأفغاني تشكلان السور الواقي أمام استعادة طالبان السيطرة على البلد. ويعني ذلك أن ما يقف بين طالبان وأفغانستان هو ترتيب أمني مدعوم غربياً. وفي الأثناء، تظل الدولة والمجتمع الباكستانيان مساعدين لأهداف طالبان. لكن المساعدات عبر الحدود تستطيع الاستمرار فقط بالقدر الذي يسمح به النفوذ الذي تمارسه طالبان في البلد.
في النهاية، تكمن المشكلة في عدم وجود اتجاه سائد أفغاني يستطيع مقاتلة طالبان بفعالية. ولا يستطيع أولئك الذين يعارضون طالبان الاتفاق على عدم الاتفاق. ولذلك، يبقى ما يجب أن تكون عليه أفغانستان قضية صراع وموضعاً لشك كبير.
كمران بخاري – (جيوغرافيكال فيوتشرز) 30/8/2016
ترجمة: عبد الرحمن الحسيني
*نشر هذا المقال تحت عنوان:
The Taliban and the Divided Afghan State
نقلا عن الغد الاردنية