عملت إيران منذ ثورتها على صياغة واقع جديد داخليا وفي دول الجوار عبر تغيير بنيتها الأمنية، فأيديولوجية الثورة الإسلامية التي اتسمت بتركيبتها المعقدة من القومية والشعبوية السياسية والراديكالية الشيعية، أسست لنظام ذي طبيعة مزدوجة يحرص أصحابها على تحقيق التوفيق بين تثبيت الحكم الإسلامي بصيغته الشيعية، وبين مبادئ الحكم الديمقراطي، ما أنتج تناقضات متنوعة في بناء الدولة على أساس الديمقراطية الدينية، ولفك هذا التناقض الكبير تم الاستناد في العملية السياسية على الحرس الثوري وقوات الباسيج التابعة له.
الحرس الثوري يعدّ أهم وأخطر المؤسسات في إيران لما يتمتع به من نفوذ قوي على المستوى السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي الناتجة عن استقلاليته وتأثيره في مؤسسات صنع القرار، ما جعل منه الحامي للنظام وأيديولوجيته والمحافظ على قيم الثورة ونشرها بكل الوسائل إلى الخارج.
خلال ثمانينات القرن العشرين، قاتل الحرس الثوري ضد حركات التمرد المختلفة في إيران، ولعب دورا بارزا في الحرب العراقية الإيرانية، ورغم أن الخسائر التي منيت بها إيران في هذه الحرب تعود في جانب كبير منها إلى تسرع الحرس في توسيع رقعة هجماته، إلا أن تجربته الناجحة وبسالته في الحرب واستعداده العالي للشهادة، حوّلت أنظار إيران نحو تسليح جماعات مقاتلة وتدريبها لتكون ذراعا عسكرية استراتيجية لتصدير الثورة الإسلامية اعتمادا على الأقليات الشيعية، وتحت غطاء رؤية الخميني لدور الدولة الإيرانية في “إنقاذ المستضعفين وخلاصهم” وفي الدفاع عن الشيعة في كل مكان يتواجدون فيه، وهي المهمة التي استلمها الحرس الثوري واستلهم منها قدرته على قيادة وتدريب الوكلاء لخلق إيحاءات لأمة إسلامية موحدة انطلاقا من طهران.
النمط الجديد الذي بني عليه الحرس الثوري لم تألفه قوات الأمن أو الجيوش النظامية، فانتقاله من حيّزه العسكري إلى مؤسسة ضخمة لها مواردها وميزانيتها وكوادرها وجامعاتها ومساهمتها الإنتاجية الواسعة، مهّد إلى الولادة المنتظرة لهيكليات مؤسساتية مشابهة للحرس في مناطق مختلفة، كجيش محمد في أفغانستان وفيلق بدر وغيره من الميليشيات في العراق، ومن السطحية النظر إليها والتعامل معها كميليشيات أو أحزاب دينية، وهذا ما أثبته فعليا حزب الله. فقد ارتبطت نشأته بالتأثير الفكري والعقائدي للثورة الإيرانية، واتخذ مسار الحرس الثوري في بناء هيكليته، وخرج بعملياته المسلحة من منطلقات سياسية تداعب حلم الجمهور في فكرة المقاومة العسكرية لإسرائيل التي نقلته من حزب يتمتع بنفوذ محدود إلى قوة سياسية ذات ثقل كبير على مستوى العالم العربي، ونظر إليه كبديل للأنظمة العربية في صنع توازن الرعب مع إسرائيل، ورغم تغير مساراته التي كشفت أن سلاحه لا يقتصر على المقاومة وإنما يمثل امتدادا للانقسامات المذهبية والصراعات الأهلية المرتبطة بتوازنات القوى الإقليمية، إلا أن تفكيكه بات صعبا بعد أن أصبح دولة داخل الدولة له مشروعه وحساباته وتوازناته المستقلة.
وفي السنوات الأخيرة، زادت قوات فيلق القدس من تجنيد المقاتلين الشباب من المجتمعات الشيعية، فالمقاتلون الأفغان في لواء “فاطميون” بقيادة سليماني من أوائل المقاتلين الأجانب الذين انضموا إلى مقاتلي حزب الله في سوريا في العام 2014 ووصل عددهم إلى حوالي 14000 مقاتل منظّمون في ثلاث كتائب بين دمشق وحماة وحلب، أما لواء “زينبيون” المشكل من المجنّدين الباكستانيين، فيشكل نخبة القوة الهجومية وقدرت بـ5000 من المقاتلين الشباب، وازداد عددهم بعد أن طردت دولة “الإمارات” 12000 عامل باكستاني شيعي في الأعوام الأخيرة.
لم تخرج إيران عن نهجها وفكرها التوسعي، فالفكرة السياسية لا تسقط إذا كان الواقع السياسي غير موات لتطبيقها، وهذا ما سيتبناه “الفارسيون الجدد” الذين تم إعدادهم من صلب النسيج العربي، كميليشيات مقاتلة يجري تأسيسها وتدريبها لتكون القوة الجديدة الإيرانية، ولا يمكن النظر إليها كقوة شيعية مقابل قوة سنية، إذ أن ثمة فارقا أساسيا في ما بينهما، فالتنظيمات السنية التي مالت نحو التطرف تعيش ما يشبه العزلة عن حاضنتها الشعبية، وقد رفع كبار العلماء والشخصيات العامة الإسلامية السنية الغطاء عنها، أما التنظيمات الشيعية فإن حاضنتها الأم تسعى لتحويلها إلى قوة ضاربة تهزّ التوازن الاستراتيجي بين العرب وإيران وتشكل فارقا أساسيا يؤثر على التوازنات المستقبلية العسكرية والسياسية، فإيران لن تتخلى عن حلمها بقيادة العالم الإسلامي.