استيقظت المنظومة الأوروبية ومحرّكها الفاعل، المفوضية العامّة، من صدمة قرار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وبدأت سلسلة من الاجتماعات في ستراسبورغ وبراتيسلافا لمناقشة أهمّ التحدّيات التي تواجه الاتحاد في الوقت الراهن، حدّدها رئيس المفوضية، جان كلود يونكر، تناولت شأن الأمن ومكافحة الإرهاب واللجوء وإيجاد حلولٍ لتحقيق النموّ الاقتصادي، وتوفير فرص عمل لملايين المواطنين من الفئات الشبابية، وتنشيط السياسة الخارجية التي تبدو سلبيةً في الوقت الراهن. تَوضّح ذلك، حسب يونكر، من خلال الحلول الأميركية الروسية المطروحة لحلّ الأزمة السورية، في الوقت الذي تغيّب فيه عن ساحة الأحداث بصورة شبه كاملة اسمُ المفوّضة العليا للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية نائبة رئيس المفوضية، فدريكا موغريني.
الحالة الراهنة للاتحاد
أكّد يونكر في كلمته على الحلم الأوروبي، معتبرًا فكرة إنشاء الاتحاد في منتهى الأهمية للأجيال المقبلة. وطالب قادة الدول الأوروبية الأعضاء بتوطيد هذه الأفكار، والتوقّف عن البحث عن عوامل التفرقة، في ظلّ العقبات التي تواجهه، خصوصاً أزمة اللجوء ومكافحة الإرهاب، الأمر الذي يتطلب تعاونًا استخباراتيًا، وتوزيع عبء استيعاب اللاجئين، حسب الكوتا التي اقترحتها بروكسيل. ويذكر أنّ دولاً عديدة في أوروبا الوسطى أقدمت على بناء حواجز على طول حدودها الخارجية، لمنع دخول اللاجئين، مثل هنغاريا، وامتناع دول أخرى، مثل بولندا والتشيك، عن قبول نصيبها من اللاجئين. وأوضح يونكر أنّ من العبث مواجهة الأزمات بحواجز داخلية، تؤدّي إلى الإخلال بأمن المنظومة الأوروبية وحدودها.
لا شكّ أنّ قرار خروج بريطانيا من المنظومة الأوروبية، بعد إجراء استفتاء شعبي، مثّل صدمة غير متوقّعة أمام قادة الاتحاد، وأعرب بعض قادة اليمين المتطرّف، مثل ماري لوبين، زعيمة الحزب الوطني الفرنسي، عن استعدادها لعقد استفتاء مشابه في بلادها لمغادرة الاتحاد الأوروبي. لكن، على الاتحاد، باعتباره أكبر كتلة تجارية، تجاوز هذه المحنة، والاستمرار في طريق الوحدة والتكامل المرجوّ. لكن، ليس من الممكن فرض التعاون بين دول المنظومة، إذا لم يقتنع القادة الأوروبيون بضرورة ذلك، كما هو واضح في مظاهر انعدام الرغبة لدى دول أوروبا الشرقية والوسطى لمساعدة إيطاليا واليونان اللتين تستقبلان أعدادًا كبيرة من اللاجئين فوق أراضيهما، مهدّدة بالانفصال عن الاتحاد وعدم الالتزام بقراراته، إذا ألزمت بتقديم مأوى لكوتا، حتى وإن كانت ضئيلة من اللاجئين.
خريطة طريق لستة أشهر
توصّل القادة الأوروبيون، في اجتماع القمة في براتيسلافا، يوم 16 سبتمبر/ أيلول الجاري، من دون مشاركة رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، إلى اعتماد بيان أطلق عليه “خريطة طريق” للأشهر الستّة المقبلة، لإعادة الثقة بالاتحاد الأوروبي. وأكّدت الخريطة الجديدة، حسب تصريحات رئيس الوزراء السلوفاكي المُضيف، بوخوسلاف سوبوتكا، على مواجهة أزمة اللجوء ووقف تدفّق اللاجئين، والتعاون مع تركيا، لإعادة أكبر عدد ممكن من اللاجئين إلى مراكز اللجوء التركية، تأسيس آلياتٍ جديدةٍ لرفع مستوى التعاون في مجال الأمن والاستقرار ومكافحة الإرهاب، وقد شهدت عواصم أوروبية عديدة عمليات إرهابية أدّت إلى مقتل وجرح كثيرين، وفرض حالةٍ من الترقّب والهلع في المجتمع الأوروبي. رفع مستوى التعاون في مجال الدفاع والعمل جدّيًا على تأسيس جيش أوروبي موحّد وعدم الاكتفاء بقدرات حلف الأطلسي (الناتو). يتطلّب ذلك رفع موازنات الدفاع، لتوحيد القدرات العسكرية للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي والحلف، وتقديم المساعدة للفئات الشبابية في الاتحاد الأوروبي، لنيل فرص عمل في التخصّصات والمجالات المتاحة.
يعاني الاتحاد الأوروبي، جزئيًا على الأقل، من أزمةٍ ذات أبعاد مختلفة. لكن، لا توجد مخاطر على تماسك الاتحاد، حسب يونكر. الدول الأعضاء غير موحّدة ومتجانسة في مواقفها طوال الوقت، وتطرح بعض الدول آراءً ومواقف مستقلة، تبدو انشقاقية أحيانًا. لا تقدّم هذه الشعبوية السياسية حلولاً للأزمات التي تواجه الاتحاد. كما دعا رئيس المفوضية يونكر إلى مغادرة بريطانيا أطر الاتحاد فوراً، معبّرًا عن احترامه نتائج الاستفتاء. وسيشعر الاتحاد بالسعادة، إذا تقدّمت بريطانيا بطلب لمغادرة الاتحاد في أقرب وقتٍ، لمواجهة حالة عدم الاستقرار في الاتحاد، ولتحديد مستقبل العلاقات مع بريطانيا التي يجب أن تستمرّ على مبدأ الصداقة والتعاون. لكنّ يونكر حذّر لندن من عدم التمكّن من التعامل بحريةٍ مع السوق الأوروبية الحرّة، من دون الالتزام بالقواعد والقوانين المعتمدة، بما في ذلك حرية تنقل المواطنين. وتعني النظم الجديدة التي أشار إليها يونكر كذلك احترام الحقوق الاجتماعية (حقوق المواطنين الأوروبيين الموجودين في بريطانيا للعمل والدراسة والإقامة لأسباب مختلفة)، لكي تتمكن لندن من التعامل بحريةٍ مع الأسواق الأوروبية الداخلية.
غياب السياسة الخارجية
لا يمكن إنكار حجم المشكلات والتحديات الداخلية التي تتعرّض لها دول المنظومة الأوروبية، لكن هذا لا يمنع من تنشيط التوجّهات الخارجية لحلّ الأزمات، ولعب دور فاعل في الملفات الدولية الساخنة. وقد أكد جان كلود يونكر أنّ على فيديريكا موغريني وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي بكلّ مكوّناته، ورغم الجهود التي تبذلها، أن تثبت نفسها وزيرة أوروبا للشؤون الخارجية، القادرة على توحيد القوى الدبلوماسية لدول الاتحاد، لتحقيق الثقل الدولي المطلوب في المحادثات الدولية. وتتمثل المشكلة الحقيقية التي يواجهها الاتحاد في عدم القدرة على اتخاذ موقف أوروبي حاسم في الشأن السوري، وتوحيد الجهود في شخص مفوضة الشؤون الخارجية موغريني. ودعا يونكر كذلك إلى تشكيل قوّة عسكرية موحّدة امتدادًا لقوات “الناتو”، فالمزيد من القوّة والدفاع في أوروبا لا يعني خفض مستوى التعاون مع الحلف.
النمو الاقتصادي وجبي الضرائب
عارضت المفوضية الأوروبية لجوء الشركات الكبرى إلى الواحات العالمية التي توفّر غطاءً إداريًا وميدانيًا لغسل الأموال والتهرّب من دفع الضرائب، أو اللجوء للدول ذات الأنظمة الضرائبية الليبرالية المنخفضة. الإمكانات الاقتصادية المتجانسة في الاتحاد الأوروبي تعني كذلك حماية المستهلكين من نظم الاحتكار التي تمارسها شركات الخدمات العملاقة في مجال الطاقة والاتصالات والنقل، وغيرها من القطاعات. ما يعني كذلك دفع الشركات، الصغيرة والكبيرة على حدّ سواء، ضرائب الأرباح التي تحققها في الأماكن التي توجد فيها. وأوضح يونكر أنّ الخطّة الاستثمارية للاتحاد الأوروبي المطروحة في العام 2014 حقّقت نجاحًا أكثر من المتوقع، وأعرب عن وجود نياتٍ لرفع القيمة المالية لهذه الخطة إلى قرابة 630 مليار يورو حتى العام 2022. وأصرّ على ضرورة المصادقة على الاتفاقية التجارية مع كندا، باعتبارها أفضل الاتفاقيات التي توصّل إليها الاتحاد.
يعاني الاتحاد الأوروبي من منافسة شديدة من الصين التي تمكّنت من إغراق الأسواق بالسلع والأجهزة، ما أدّى إلى انخفاض عمليات التنقيب عن المعادن، وخفض أسعار الفولاذ في الأسواق العالمية، وأصرّ على ضرورة حماية المنتجات الصناعية الأوروبية وتفضيلها أمام السلع الصينية. لكن، للأسواق منطقها الخاصّ، ولا يمكن الضغط عليها سياسيًا، إلا إذا اعتمدت قوانين جمركية لوقف تدهور الأسعار والحيلولة دون استمرار المنافسة غير المتكافئة. ويذكر أنّ الاتحاد قد سنّ 37 قانونًا لمكافحة المضاربات في الأسواق الوطنية ورفع مستوى المنافسة الأوروبية، لكنّ الإنتاج الفائض على المستوى العالمي يوشك على حرمان الأوروبيين من أماكن عملهم في قطاع التصنيع.
وقد أثّر الحصار الاقتصادي الذي فرضته روسيا ضدّ قطاع إنتاج الألبان والمواد الغذائية سلبيًا على المنتجين الأوروبيين، وضخّ الاتحاد قرابة مليار يورو لمساعدتهم. وقال يونكر، في هذا السياق، إنّ المفوضية لن تسمح لأسعار الحليب أن تنخفض دون أسعار المياه. بقي أن نذكر أنّ التفاوت الكبير بين الأجور في أوروبا الغربية والشرقية سيعمل على توسيع الهوّة بين دول الاتحاد، وإذا لم تتّخذ الإجراءات المطلوبة لتحقيق مستوى حياة متماثل، ستستمر الهجرة إلى دول أوروبا الغربية في المستقبل المنظور. لذا، لا بدّ من توظيف جزء من أموال خطّة يونكر المقبلة لإيجاد وظائف جيّدة للفئات الشبابية في كامل دول الاتحاد الأوروبي، لوقف وتائر الهجرة الداخلية وتحقيق العدالة الاجتماعية.
والمفوضية الأوروبية بصدد الاستثمار في المجالات الإلكترونية والشبكات الرقمية في كامل دول المنظومة، لتصبح حقيقة حتى العام 2025، وتمكين المواطنين من امتلاك آليات الإنترنت من دون كوابل في كل الأماكن الآهلة بالسكان، وتحديث قاعدة القوانين لحماية الملكية الفكرية ومجالات الإبداع المختلفة. وعلى الرغم من أنّ الاتحاد قد تمكّن من توفير ثمانية ملايين فرصة عمل منذ العام 2013 في المجالات كافة، إلا أنّ مشكلة البطالة ما تزال قائمة، خصوصاً بين فئات الشباب حديثي التخرّج، وحتّى سن الثلاثين. وقد نوّه يونكر إلى أنّ بروكسل لن تسمح للأبناء في أوروبا أن يعيشوا في ظروفٍ أكثر فقرًا وعوزة من آبائهم وأجدادهم.
توصيات القمة
أثمر اجتماع القمّة الأوروبي في براتيسلافا عن توصياتٍ عديدةٍ، أهمّها التركيز على وقف موجات اللجوء والمحافظة على القيم الأوروبية، وعدم الانصياع لعامل الخوف والتعامل بموضوعية مع تبعات خروج بريطانيا من المنظومة الأوروبية.
وقد أكد رئيس المجلس الوزاري للاتحاد الأوروبي، دونالد توسك، على ضرورة التخلّص من حالة الفوضى على الحدود الأوروبية، وتجوّل مئات الآلاف من اللاجئين داخل إطار المنظومة بحريّة، الأمر الذي روّع المواطنين الأوروبيين. وأشار توسك إلى رفع مستوى الرقابة واتّخاذ الإجراءات اللازمة لقطع طريق البلقان، باعتباره المرحلة الأولى لانتقال اللاجئين إلى قلب القارّة الأوروبية، وتفعيل الاتفاقية المبرمة مع تركيا لإعادة اللاجئين إلى مراكز اللجوء فوق الأراضي التركية، في مقابل تقديم مساعدات مالية. تجدر الإشارة إلى أنّ قادةً أوروبيين عديدين على قناعةٍ بعدم جاهزية تركيا للانضمام للاتحاد الأوروبي، ولا توجد مؤشّرات للسماح للمواطنين الأتراك بعبور منطقة الشنغن، من دون تأشيرات دخول ضمن الظروف الراهنة. ويطالب الليبراليون بتخفيف الرقابة على الحدود الأوروبية الخارجية، فأوروبا في نهاية المطاف ليست قلعة منغلقة على نفسها.
أدى التباين في وجهات النظر بشأن اللاجئين إلى خلاف واضح بين القوى السياسية اليمينية المتطرّفة والقوى اليسارية والليبرالية، الراغبة بتفهّم الأوضاع المتفجّرة في الشرق الأوسط، وهرب المواطنين بحثًا عن الأمان في القارة الأوروبية. لكن، ومع هذا، تطالب الغالبية بحماية الحدود الأوروبية الخارجية بكلّ الطرق الممكنة، وتشكيل دوريات حرس حدود مشتركة، وتقديم آلياتٍ حديثةٍ لتسهيل السيطرة على كامل الحدود البرية والبحرية الأوروبية. كما وافقت بروكسل على منح بلغاريا بصورة خاصّة 160 مليون يورو، لتحسين الرقابة على الحدود البرية المشتركة مع تركيا، وإرسال قوات مشتركة وآليات للمناوبة على هذه الحدود، للحيلولة دون تكرار حالة التسيّب والفوضى التي شهدها البلقان ودول أوروبا الوسطى عام 2015.
خلاصة
يمكن تلخيص توجّهات المفوضية والمجلس الأوروبيين في القراءة الأخيرة لأوضاع الاتحاد واجتماع القمة في براتيسلافا: اتّخاذ موقف حاسم بشأن خروج لندن من المنظومة الأوروبية، والحفاظ على علاقات مشتركة جيّدة مع بريطانيا في المجالات كافة. حماية الحدود الخارجية الأوروبية بعد خروج بريطانيا، وموازنة قيم الحريات العامّة والشخصية مع أمن القارة. مكافحة الإرهاب بفاعلية ورفع مستوى التعاون بين الأجهزة الأمنية وتبادل المعلومات ومكافحة التوجهات الراديكالية ومراقبة مزوّدي الإنترنت ومواجهة العنصرية. الدفاع عن المصالح الاقتصادية والاجتماعية وتحقيق القدرة على منافسة قطاع العمل الأجنبي. اعتماد خطّة طريق للتنمية الاقتصادية وتوفير فرص العمل خاصة للفئات الشبابية، تطوير السوق الموحّدة وسبل الاستثمار ومراجعة العلاقة مع روسيا خلال شهر أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، رفع القدرات الدفاعية وتحسين أداء البنوك والمؤسسات المالية ولجان الرقابة الاقتصادية والمالية. تحقيق التوازن بين دول المنظومة وبروكسل، أخذًا بالاعتبار أنّ من غير المتوقع أن يصبح الاتحاد الأوروبي دولة واحدة، ولا توجد أيّة نية لدعم رفع صلاحيات المؤسسات الأوروبية المختلفة.
خيري حمدان
صحيفة العربي الجديد