لا يقتصر استدعاء التاريخ في سياسات الشرق الأوسط على توظيف حوادثه وتناقضاته لتحقيق المصالح الراهنة للقوى الدولية والإقليمية، بل يتطور الأمر إلى محاولة رسم الحاضر بريشة الماضي ومبضعه، وتشكيل الغد على مقاس الأمس، وإخضاع المستقبل لإملاءات الأزمنة الفائتة. فهل تعكس هذه الظاهرة عملية محاكاة مغرضة للتاريخ يشارك فيها فاعلون سياسيون من داخل المنطقة وخارجها بتواطؤ تام، أم تعبّر عن التطور التاريخي الطبيعي لواقع المنطقة السياسي والثقافي، فما الحاضر إلا امتداد حتميّ للماضي؟
سؤال طرحته “العرب” على الباحث التاريخي العراقي فرهاد حاجي عبوش، فقال إن “التاريخ يعيد نفسه في الشرق الأوسط، فالأحداث تتكرر ولكن الشخوص والقوى يتغيرون”، ويوضح أن “ما شهدته بداية القرن العشرين يُستعاد في مطلع القرن الحادي والعشرين، إذ يذكرنا ما يحصل بين الروس والأميركان اليوم باتفاقيات تقاسم النفوذ الاستعماري بين الفرنسيين والبريطانيين في الماضي”، مؤكدا أن “المطامح والمصالح بقيت هي نفسها ولكن الأسماء تبدلت”.
وينتقد عبوش عدم اتعاظ مجتمعات المنطقة بالخبرة التاريخية أو التعلّم من التجارب، ويحذّر أستاذ التاريخ الإسلامي في جامعة دهوك من “التغيير السياسي الذي يزيح الأشخاص من السلطة ولكن السياسات تبقى ذاتها، فتأتي نخب جديدة تعيد إنتاج ممارسات الأنظمة السابقة في الفساد وتبديد الثروات وسوء الإدارة”.
لم يكن ممكنا توظيف التاريخ في الصراع الطائفي بهذه الكثافة لولا مكانة التراث الديني في الثقافة الإسلامية
يتفق الأكاديمي هوزان سليمان ميرخان مع زميله عبوش، فيبيّن أن الشرق الأوسط مثقل بإرث زاخر بالصراعات، والتاريخ فيه يعيد نفسه ولكن بأنماط مغايرة، مشيراً في حواره مع “العرب”، إلى “استمرار صراع النفوذ بين الامبراطوريتين العثمانية والصفوية على المنطقة في صورة صراع إقليمي بين وريثتيهما تركيا وإيران”، فقد كانت هاتان القوتان، وفق ميرخان، تتحكمان تاريخيا في الشرق ودخلتا في صراعات وحروب دموية استمرت قرونا، ما يؤشر -حسب رأيه- على دور العامل التاريخي في تأجيج النزاعات الحالية في المنطقة.
ويضيف ميرخان، وهو أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة دهوك، أن “دراسة الأحداث الجارية في المنطقة تكشف أن الدول المنخرطة في النزاع هي تلك التي ورثت تركة الصراع العثماني الصفوي، سواء تركيا وإيران ذاتاهما، أو العراق وسوريا اللتان صارتا ساحة صراع وتجاذب”.
استلاب تاريخي
ويبدو العنف الضارب في المنطقة نتاج مقاربات أصولية سياسية وأيديولوجية للتاريخ، تريد إيقاف الزمن وإكراه الحاضر ليطابق الماضي، ما يفرض علينا تشخيص ونقد النزعات الماضوية الارتدادية لدى شعوب المنطقة، والتي يؤاخذها الباحث ميرخان على “السماح بتحكّم القديم في الحديث، والتعويل على أمجاد الماضي وتقديس التراث”، مؤكدا على أهمية المكاشفات التاريخية والنقد العلمي للماضي والتراث في حلحلة أزمات الحاضر.
ولم يكن ممكناً توظيف التاريخ في الصراع الطائفي بهذه الكثافة لولا مكانة التراث الديني في الثقافة العربية والإسلامية، وخضوع الوعي الجمعي للشعارات المذهبية، وهو واقع يعزوه الأكاديمي عبوش إلى “نسبة الأمية العالية والجهل ونقص الثقافة في مجتمعاتنا، ما يجعل الأفراد عرضة لخداع واستلاب الخطاب الطائفي الذي يستعمل الصراعات التاريخية للهيمنة على الحاضر”، ويضيف الباحث في الدراسات الحضارية أن التعليم الجيد والتثقيف كفيلان بإكساب المجتمع مناعة ضد الإيهام الطائفي والتضليل العقائدي واستخدام التاريخ لتدمير الراهن والمستقبل.
إن العقلية الأصولية والرجعية هي أسوأ خيار في مواجهة الأزمات، ولذلك ينصح الباحث السوسيولوجي البريطاني زيغمونت باومان بألّا نسمح لهؤلاء الذين يتحكّمون في الحاضر باستغلال الماضي بطريقة ربما تحوّل المستقبل إلى مكان موحش لا يُرحّب بالبشرية. وينبّه عبوش إلى مخاطر العيش في الماضي المتمثلة في “اجترار المآسي والشروخ لا سيّما ما شجر بين الطوائف الدينية والإثنية” مؤكداً أن التراث قد مضى، ولغة المستقبل ينبغي أن تسود، ويشدد على أن الجهل ليس عذراً للتقاعس عن تغيير الواقع المتردي، فالتجربة الإنسانية، كما يراها، “غنية بخبرات بناء السلام وفض النزاعات وفق صيغ عقلانية تضمن حقوق الجميع”.
بين الأمس والغد
يؤمن الباحثان بأن حل أزمات المنطقة كامن في صناعة مستقبل مشترك لشعوبها، وليس في العودة إلى تناحرات التاريخ. لكن عبوش ينحو منحى مثاليا في مقاربة الحلول الممكنة فيرى أن “التاريخ كله غدر ومؤامرات” فيما المستقبل “أكثر رحابة ويمكن بناؤه على الثقة والتعايش بين الشعوب”، بينما يميل ميرخان إلى الواقعية السياسية فيقول إن “القوى الدولية والإقليمية التي تتحكم في الشرق الأوسط تريد رسم المستقبل عبر صفقات تضمن مصالحها”، مضيفا أن الدول الكبرى تفضّل مستقبلاً يخدمها أولاً ويخدم حلفاءها في المنطقة ثانيا.
العقلية الأصولية والرجعية هي أسوأ خيار في مواجهة الأزمات، ولذلك ينصح الباحث السوسيولوجي البريطاني زيغمونت باومان بألّا نسمح لهؤلاء الذين يتحكّمون في الحاضر باستغلال الماضي
ويؤيد عبوش توطيد العلاقة المعرفية بين علم التاريخ وحقل الدراسات المستقبلية، عبر الاستفادة من التنقيب التاريخي وتحليل الوقائع والسياقات، في التنبؤ بالمستقبل وتوقّع سيناريوهاته. أما ميرخان، المتخصص في التاريخ السياسي، فينصح الباحثين بالتعمّق الدراسي في التاريخ كمنطلق لتفكيك الأحداث الراهنة وكتابة مقاربات جادة لمستقبل المنطقة، فاستقراء الماضي مدخل حيوي لاستشراف المستقبل.
وإذا كانت “المعرفة قوة” كما يقول فرنسيس بيكون، فإن السلطة المهيمنة لم تدّخر جهداً في سبيل امتلاك المعرفة واحتكارها والتحكّم فيها، لا سيّما “المعرفة التاريخية”، لذلك كانت كتابة التاريخ مرتبطة دائما بتوجهات الإرادة السياسية أو الثقافية المتغلّبة في المجتمعات.
ويتفق عبوش مع مقولة “التاريخ يكتبه المنتصرون”؛ فالتاريخ من وجهة نظره لا يكتبه الطرف الضعيف، بل صاحب الغلبة والسلطة والسطوة، فيدوّنه لصالحه وبصورة انتقائية، وقد يستخدم العنف والقهر لفرض رؤيته التاريخية، ويعتبر ضيفنا ظاهرة انحياز الصحافة للحكومات وتسييس الإعلام نموذجا للتدوين التاريخي الممالئ للسلطة إذ يتم “تعظيم حسنات الطرف الأقوى وتغييب السيئات والتعتيم عليها، وتشويه الخصوم”.
كما يؤكد عبوش أن الرواية السياسية للتاريخ تقدّم قراءتها للواقع وليس الواقع نفسه، وتسمي الأشياء بغير أسمائها الحقيقية، وهذا برأيه يشكّل تزويرا للتاريخ والوعي وليس جهدا علميا لخدمة المعرفة والصالح العام. أما ميرخان فيبيّن أن “تدخّل المواقف السياسية والأيديولوجية في سرد التاريخ يفرز حالة عدم ثقة بالمرويات التاريخية، ويثير الجدل حول صحة الحوادث المنقولة”، فيتسبب -حسب رأيه- في “ظاهرة تعدد وتضارب الروايات، وهي واحدة من أبرز الصعوبات التي تواجه الباحث التاريخي في عمله”.
ويدعو ميرخان إلى إعادة كتابة تاريخ المنطقة بمنهجية علمية، محايدة وموضوعية، تفصل بين الحقيقة الثابتة والموقف السياسي، وبالاستناد إلى الوثائق التاريخية والمصادر الرصينة. ويلخّص فرهاد عبوش السبيل العلمي والعقلاني للتعامل مع التاريخ في أن المطلوب “فهم التاريخ لمعرفة جذورنا وخصوصياتنا فقط، لا أن نأخذه كأيديولوجيا، فالتاريخ موعظة، وإذا لم نأخذ منه العبرة فلن نستفيد منه وسيكون أثره عكسيا”.
همام طه
صحيفة العرب اللندنية