يستعد مسلسل تليفزيوني أمريكي شهير، يدعى «الرجل في القلعة العالية» لإطلاق موسمه الثاني في ديسمبر (كانون الأول) القادم.
تتحدث السلسلة عن فوز اليابان وألمانيا في الحرب العالمية الثانية، وتقسيمها للولايات المتحدة إلى ثلاثة أجزاء. وهي مبنية على رواية خيال علمي للكاتب «فيليب ك. ديك» تحمل الاسم ذاته صدرت لأول مرة عام .1962
وتتناول الرواية في أحداثها تاريخًا بديلًا تفوز فيه دول المحور أيام الحرب العالمية الثانية، وتستخدم مخططًا لتجفيف مياه البحر المتوسط لتوسيع رقعة سيطرتها. ومع أن القصة خيالية بالطبع إلا أن تجفيف مياه البحر المتوسط كان مخططًا حقيقيًا.
وطن كبير يؤوي ملايين اللاجئين
آمن القادة الألمان منذ أوائل القرن العشرين، بضرورة إيجاد حل للازدياد السكاني، بضم المزيد من الأراضي؛ مما يعني احتلال بلاد أخرى لحماية ما يسمى بـ«المجال الحيوي» للمواطنين الألمانيين، أو«Lebensraum» ، وهو ما قاد ألمانيا للحرب العالمية الأولى؛ لتتفاقم الحاجة بعدها لوطن أكبر يضم العرق الآري خاصة بعد صعود النازية، ووصول هتلر للسلطة.
تركت هذه الحروب الطاحنة البلاد المتحاربة في فقر مدقع، فضلًا عن الاضطراب الاقتصادي والسياسي الذي خلفته، بجانب ملايين اللاجئين الذين تشردوا جراء الصراع المدمر بين الدول خلال الحرب العالمية الأولى. وهو ما أدى بدوره إلى بروز مخطط لإيجاد أرض تؤوي هؤلاء الملايين، وهو مشروع لم يحدث في التاريخ من قبل.
قارة «أوروإفريقية» كبيرة لحل مشاكل الحرب العالمية
رأى مهندس ألماني يدعى «هيرمان سورجِل»، أن السياسة لا يمكنها حل مشاكل أوروبا، وأن العلم يجب أن يتدخل لتجنب خوض حرب عالمية جديدة، وتخفيف التوتر الناتج عن الحرب السابقة.
ومن ثم يجب توحيد الدول الأوروبية والتفافها حول هدف مشترك. وهنا ظهر مخطط «أتلانتروبا» بتوحيد قارتي أوروبا وإفريقيا في قارة واحدة عظيمة. وهو المشروع الذي كرس المعماري الألماني حياته من أجل تنفيذه عبر كتبه الأربعة وآلاف المنشورات والمحاضرات.
ولد هيرمان سورجل عام 1885 في عائلة من المهندسين المعماريين. انخرط سورجل في الحركة الفنية والمعمارية آنذاك وانطلق كي يصبح مهندسًا معماريًا أيضًا.
رأى سورجل أن تجفيف البحر المتوسط جزئيًا بخفض مستواه إلى مقدار يصل لحوالي 200 متر، وبناء جسور برية بين قارتي أوروبا وإفريقيا هو الحل لإيواء ملايين الأوربيين في قارة «أوروإفريقية» كبيرة توفر لهم الغذاء والعمالة والطاقة، وتغير الخريطة السياسية والجغرافية لكلا القارتين. وبالتالي يصبح هناك ثلاث كتل عظمى رئيسة وهي: أمريكا وأوروبا وأتلانتروبا.
ثلاثة سدود تقسم البحر المتوسط إلى جزئين
اقترح سورجل بناء ثلاثة سدود رئيسة عند كل من مضيق جبل طارق بين إسبانيا والمغرب؛ لفصل البحر المتوسط عن المحيط الأطلسي حيث يمده الأخير بالكمية العظمى من المياه. وآخر عند مضيق الدردنيل؛ للحلول دون البحر الأسود، وسد ثالث بين صقلية وتونس يقسم البحر المتوسط إلى حوضين لإنشاء طريق بري.
يهدف بناء هذه السدود إلى وقف تدفق المياه إلى البحر المتوسط، حتى ينخفض مستوى المياه تدريجيًا بما يسمح لظهور مساحات جديدة من الأراضي الزراعية في مكانها. وتصل مساحتها لأكثر من مئة ألف ميل مربع على طول الشريط الساحلي، وتصلح للسكن في جنوب أوروبا وشمال إفريقيا التي ستندمج مع بعضها.
شمل المخطط بناء سدين آخرين على نهر الكونغو لتحويل مجرى الأنهار الإفريقية؛ كي تصب المياه في بحيرة تشاد من أجل توفير مياه عذبة لري الصحراء، بجانب توفير ممر ملاحي داخل إفريقيا كامتداد لقناة السويس، والحفاظ على الاتصال بالبحر الأحمر.
شبكة طاقة كهرومائية عملاقة تربط «أتلانتروبا»
تحوي كل من هذه السدود محطات عملاقة لتوليد طاقة كهرومائية تربط أتلانتروبا (ويشار إليها أحيانًا بـ«بانروبا») بشبكة عملاقة توفر الطاقة لكل من أوروبا وإفريقيا، وتديرها هيئة مستقلة يمكنها أن تمنع إمداد أي بلد بالطاقة إن كانت تمثل تهديدًا.
وهو ما يوفر مزيدًا من المياه لري أراضي شمال إفريقيًا وظهور مساحات زراعية جديدة، وعندما تصبح منطقة البحر المتوسط معزولة بواسطة السدود سينخفض مستوى سطح البحر تدريجيًا بمقدار عدة أقدام سنويًا بواسطة التبخر.
كذلك ستتبخر معظم مياه البحر الأدرياتيكي الذي يفصل شبه الجزيرة الإيطالية عن شبه جزيرة البلقان، وستتضاعف مساحة صقلية لتصل إلى إيطاليا وتقترب للغاية من تونس. ونتيجة لذلك يتحول البحر المتوسط إلى حوضين، ينخفض الحوض الشرقي بمقدار 100 متر، والغربي بمقدار 200 متر.
سورجل يحشد القبول من الإعلام والشعب
إلا أن مشروعًا ضخمًا مثل هذا يتطلب استثمار الكثير من الأموال التي لا تملكها البلاد بعد خروجها من حرب طاحنة. لذا كرس سورجل جزءًا كبيرًا من عمله لترويج مخطط قارة المستقبل.
عمل سورجل على نشر المشروع من خلال الصحافة المحلية والعالمية التي كتبت مئات المقالات حول المشروع. بجانب الإذاعة والأفلام والحوارات والمعارض وحتى بواسطة الأشعار والسيمفونيات، كذلك سعى للحصول على تأييد اليونسكو.
نجح مخطط أتلانتروبا في حشد انتباه الإعلام والشعب الألماني منذ الإعلان عنه في 1920، وكتب عن فكرة مشروعه في كتابه «بانروبا: تجفيف البحر المتوسط، وري الصحراء». وحاز المشروع على دعم العديد من المهندسين المعماريين والمخططين بألمانيا وغيرها من الدول في شمال أوروبا. وصمم المهندسون برجًا يعلو سد جبل طارق بارتفاع 400 متر، فيما وضع آخرون توقعات بمقدار نمو الإنتاج الزراعي.
وسيلة «سلمية» للهيمنة
ظهر المشروع باعتباره وسيلة لإرساء السلام، وتوحيد أوروبا التي مزقتها الحرب عن طريق فرض هيمنتها على إفريقيا. وأنه سيضطر دول أوروبا المتناحرة إلى التعاون، وتقوية العلاقات والروابط لمنع النزاعات المستقبلية.
وسيوفر العمل للبطالة الجماعية التي تفشت في فترة ما بعد الحرب، وستؤمن مصدرًا رخيصًا للطاقة، بجانب مصادر إفريقيا الطبيعية وهو ما يعد بنمو الاقتصاد لمستويات أكبر بكثير من ذي قبل.
إلا أن هذه القارة الجديدة تعني احتلال الأوروبيين لشمال إفريقيا، والقضاء على الحضارة الإفريقية وثقافة السكان الأصليين للبلاد. فضلًا عن المخاوف من الآثار البيئية المترتبة على إعادة رسم الخريطة الجغرافية للقارتين، ومخاطر تغير المناخ والكوارث الطبيعية مثل: حدوث الزلازل.
تجاهل الإعلام والشعب هذه الحقائق، بل إن الأمر كان مواتيًا خاصة مع المناخ الاستعماري والعنصرية السائدة آنذاك.
شعبية كبيرة للمشروع تموت بصعود هتلر
واصلت شعبية الفكرة في الانتشار حتى عام 1930، ولكنه استمر في المثابرة؛ فكتب سورجل كتابًا آخر عام 1938 تحت عنوان «الثلاثة العظام» أو «Die Drei Grossen» يتحدث فيه عن مخططه بإنشاء السدود الثلاثة.
ولكن كان صعود هتلر إلى السلطة حائلًا أمام حصول المشروع على الدعم. لم يكن رفض هتلر للمشروع يعود للفكرة التي تبدو جنونية، ولكن بسبب طموحه الاستعماري للامتداد نحو الشرق في اتجاه آسيا، وليس جنوبًا إلى إفريقيا. لذلك منع النازيون سورجل من ترويج أي من مخططاته؛ ليموت حلم أتلانتروبا.
وعاد المخطط مرة أخرى للحياة بعد الحرب العالمية الثانية، ولكن فاتورة الحرب كانت باهظة للغاية، ولم يكن المناخ السياسي مواتيًا لمشروع سورجل.
كذلك تعرض المخطط للسخرية من النقاد الذين رأوا عدم تعاون دول البحر المتوسط، أو التخطيط للآثار الناتجة من انحسار المياه وتمزق المدن الساحلية؛ وما يترتب عليه من تشريد ساكنيها.
فتلاشى الدعم لهذا المخطط تدريجيًا بداية من أواخر أربعينيات القرن الماضي ليموت بموت صاحبه في عام 1952. ولكن بقي «معهد أتلانتروبا» الذي أنشأه قائمًا حتى عام 1960، رغم رفض النازيين للمشروع وتثبيطهم لمجهودات سورجل.
ويبدو أن مخطط سورجل وصلت أصداؤه إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث اقترح مهندس بنيويورك بناء سدود على جانبي نهر هدسون في مانهاتن من أجل زيادة مساحتها بمقدار 10 ميل مربع؛ ولكن لم تنفذ الفكرة قط.
تموت الفكرة في الواقع وتعيش في الخيال
ومع أن فكرة هذا المشروع الطموح لم يقدر لها أن تنفذ؛ فقبعت داخل المتحف الألماني بميونخ في قسم خاص يمتلئ بالرسومات والمخططات المعمارية والخرائط ورسائل الدعم للمشروع. إلا أنها وجدت طريقها إلى الحياة مرة أخرى بين طيات روايات الخيال العلمي.
كان مشروع سورجل الطموح مصدر إلهام لعدد من الأعمال الفنية مثل: سلسلة مسلسل «الرجل في القلعة العالية»، كذلك وثقتها عدد من الأفلام التسجيلية مثل: فيلم «أتلانتروبا» الذي يحكي قصة المعماري الألماني لبناء قارة يوتوبية عظيمة على أطلال البحر المتوسط.
ووثق «ويلي لي» في كتابه «أحلام مهندس» طموحات سورجل ومخطط أتلانتروبا، وكذلك مشروعه الآخر ببحر داخل إفريقيا الوسطى. فيما وصف الكاتب الروسي «غريغوري جريبنيف» في رواية الخيال العلمي «المحطة الطائرة» تآمر النازيين لهدم السد الذي بنته الثورة الاشتراكية بعد انتصارها.
وتحدث كتاب «ستار تريك»، الذي تحول إلى سلسلة أفلام وحلقات «ستار تريك» الشهيرة، حول بناء سد عند مضيق جبل طارق.
دعاء عبدالباقي
ساسة بوست