ليس من المنطقي أن تمر ذكرى أقوى وأطول وأشرس حرب كالحرب العراقية الإيرانية 1980 – 1988 دون أن تُستخلص منها التجارب والعبر من قبل العراقيين قبل العرب بعقل هادئ وجريء، حيث يعيشون اليوم جزءا كبيرا من نتائجها الكارثية، ولا يمكن أن تذكر تلك الخلاصات والعبر من دون انحياز وطني، فذلك أمر من البديهيات، والشاذ وغير الطبيعي أن يقول عراقي كلاماً فيه انحياز إلى طرف الحرب الثاني إيران، الإيرانيون من حقهم الانحياز إلى وطنهم.
قد يقول من عارض نظام صدام أي كلام حول السياسات الاستبدادية والفردية والظلم وغير ذلك، قصة الحرب لها مكان آخر وإن لم توضع في مكانها الصحيح، فلن يكون لضحاياها مكان بين الشهداء سواء أكانوا شيعة أم سنة عربا أم أكرادا أم تركمانا مسلمين ومسيحيين. لا نتحدث كمؤرخين أو قضاة محكّمين لتلك الحرب التي لا تزال آثارها تحفر في جسم العراق، وحولته إلى شظايا وإمارات طائفية وعنصرية وكيانات هزيلة تقوم خرائطها على جغرافية النفط ومصالح النفوذ والطائفية. ولعل من بين الأسئلة الكثيرة: لماذا حارب صدام إيران الخميني؟
يقول مفكر كوبي معروف يدعى خوسيه مارتي “مجرم من يخوض حربا يمكن تفاديها ومجرم من لا يخوض حربا لا يمكن تفاديها”، وهناك قول مأثور آخر يفيد “بأن ما يقود إلى الحرب إما الشرف وإما الخوف وإما المصلحة الشخصية”، ومع كل تلك المواعظ والحكم السياسية والاجتماعية والأخلاقية، يمكن اختيار “الخوف” كدافع رئيس لصدام في دخول تلك الحرب المجنونة. نعم خوف صدام من الخميني الذي أطلقه من صندوقه في النجف طريدا إلى الكويت ثم باريس، ثم حط في طهران بطائرة “أيرفرانس” تحيطه الجماهير الثائرة ضد شاه إيران وهي جماهير مقموعة نضجت ثورتها واستطاع الخميني بدعم دولي تصفية شركائها من أحزاب وحركات وطنيه قدمت التضحيات ضد حكم الشاه، كما تمكن من اختطاف تلك الثورة الشعبية الأصيلة لصالح مشروعه.
في تلك اللحظة وصل صدام إلى قناعة بأن مشروع الخميني سيكون استهداف النظام في بغداد بأعيرة خارقة وسلاح كيمياوي رهيب هو “الطائفية السياسية”، خاف صدام على نظامه وعلى مشروع حزبه بعد أن حوله إلى ولاء “القائد الضرورة” حسب وصايا مؤسسه ميشيل عفلق الذي استخدمه صدام ظهيرا في معركته ضد قادة الحزب المناضلين حيث قتل ثلث أعضاء القيادة لصالح زعامته في الحكم عام 1979 قبيل انفجار الحرب مع إيران.
لقد سيطر الخوف على عقل صدام من خلال ما قدمته له أجهزته الاستخبارية والحزبية بأن هناك خطرا كبيرا يستهدفه ونظامه الجديد من قبل نظام الخميني الجديد. ولم تتمكن “الجماهير العراقية المليونية” من إزالة ذلك الخوف ولم تعطله هتافات “كل الشعب وياك يا مجلس الثورة”، ووصل الخميني إلى الحكم بما يحمله من إرادة المقموعين الإيرانيين. لكن قصة الخميني لها دوافع أخرى خارج حدود إيران، توافقت مع إرادات قوى خارجية رسمت خرائط مستقبلية للمنطقة وموقع العراق فيها. كان قرار الحرب يكبر كل يوم في عقل صدام، وكان بحاجة إلى ما يغذيه، وقدم الخميني تلك الخدمة عن طريق أدواته الناشطة داخل العراق وأعتقد بأنه يقترب من حافة إشعال الثورة الشعبية في العراق الشبيهة بإيران، وإن إشعال نارها في مدن النجف وكربلاء ومدن الجنوب الأخرى والعاصمة بغداد سيؤدي إلى سقوط نظام صدام مثلما سقط نظام الشاه.
كان الخميني يعتقد بأنه سيكسب معركته ويدخل بغداد بعد أن طُرد من النجف، مع أن أجهزة المخابرات العراقية كانت هي التي تسوّق أشرطة دعوته داخل إيران للانقضاض على حكم الشاه. وكان خوف صدام على زعامته الجديدة هو المحرك لسياساته الأمنية تجاه خصومه السياسيين من “الشيعة” وخصوصاً حزب الدعوة والبعض من الرموز الشيعية، وتعامل مع تقاليد أبناء الشيعة العراقيين في “زيارات المراقد الشيعية وطقوسها” بخوف من أن تتحول إلى تظاهرات مدفوعة من قبل طهران، مما ساعد في تصعيد المشروع الخميني في العراق وفتح المعركة على مصراعيها، وأصبحت بوابة الحرب هي الطريق لتحقيق هدف إسقاط نظام صدام.
الخميني لم يكن يتوقع أن صدام يستحضر الرد عن طريق الحرب، وأن الجيش الإيراني المفكك لن يتمكن من الصمود لأيام بوجه الجيش العراقي، وتحت قناعة بأن “شيعة العراق” لن يكونوا حصان طروادة لدخول الخميني بغداد، وأن الحرب لن تتعدى أياماً قليلة لكي “يؤدب” المارد الخميني حسب اعتقاده، وفوجئ صدام بأن أبواب جهنم انفتحت على العراق بعد دخول أول دبابة عراقية إلى الأراضي الإيرانية. ولهذا وافق على نداءات مجلس الأمن الدولي في الثامن والعشرين من أبريل 1980. كما أثبتت شهادات مسؤولي المخابرات الأميركية أن واشنطن لم تدفع صدام إلى تلك الحرب، بل كانوا مع نظام الخميني ضد صدام. ولم يتمكن صدام خلال السنوات الثماني من الحرب رغم التكاليف البشرية والمادية الهائلة من تعطيل مشروع الخميني داخل العراق رغم اعتراف الخميني بقوله بعد وقف الحرب في أغسطس عام 1988 “لقد تجرعت كأس السم حينما وافقت على وقف الحرب مع العراق لكننا سنعود يوما وندخل العراق من دون أي خسائر بل وبمكاسب كبيرة جدا” وهذا ما تحقق لمشروعه بعد عام 2003 بواسطة المحتل الأميركي.
الخوف كان متبادلاً في عقلي كل من صدام والخميني. تحول الخوف المتبادل إلى إدارة وتوظيف للصراع بينهما ولم تكن مشكلات “الحدود أو التفجيرات والعمليات الانتحارية في بغداد” هي المسببة الحقيقية للحرب. الخميني صعّد في استخدام أدواته، وصدام وجد في جيش العراق أداته الوحيدة. الخميني اعتقد أنه قادر على احتلال بغداد عبر التعبئة “الشيعية” وليقول للعراقيين مثلما قال الجنرال البريطاني مود خلال اجتياح العساكر البريطانية “جئناكم محررين ولسنا فاتحين” في وقت زج فيه صدام بجيش أكثر نسبته من الشيعة ليدخل الأراضي الإيرانية.
لقد اختفى منطق حل خلافات الدول ومشكلاتها حول الأطماع والحدود، وحضر التاريخ والمذهب، كلاهما لا يؤمن بالسياسة، صدام الخائف من الخميني استحضر العروبة والقومية، واشتغل وفق معادلة العرب في مواجهة الفرس وهي معادلة صعبة ومعقدة حملت مخاطرها وفشلها في عالم اليوم، فقال للعرب “هذه إيران الخميني تريد ابتلاع العراق أولا وبلدان الخليج من بعد” فيما عبأ الخميني وفق نظرية “الولاية السياسية الجديدة” لأهل البيت متجاهلاً أن أهل العراق ونجد والشام هم أصحاب تلك الولاية، أليس مؤسس الدولة العراقية العربي الحجازي (الملك فيصل الأول) الذي جاء من الحجاز ليقبله العراقيون ملكا عليهم وقد رفضته إيران ولم تعترف بدولته الجديدة، رغم إعلان الشيخ الشيعي محمد مهدي الخالصي مبايعة الملك فيصل الأول، إلا أن غالبية العلماء الشيعة الآخرين قاطعوا حكومة العراق الأولى.
الخميني استخدم موروث التاريخ الإسلامي “الفقهي” في مشكلة السلطة السياسية للتفرقة بين العراقيين، والتغطية بشعار “المظلومية الشيعية” لتمرير برنامج تصدير الثورة من إيران إلى العراق. لا صدام الخائف من الخميني والخمينية كان قادراً على استخدام وسائل وأدوات الحلول الدبلوماسية المعروفة بمشاكل الحدود، ولا الخميني ومن بعده خليفته خامنئي كانا راغبين في اللجوء إلى المجتمع الدولي لحل المشاكل المستعصية بين البلدين الجارين. الخاسر كان شعب العراق وشعب إيران.
لكن صدام ونظامه قد أزيلا بواسطة الاحتلال ودخل مشروع الخميني “منتصرا” في بغداد، ومثلما قال وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف بتاريخ 14 سبتمبر الحالي في مقال له بجريدة نيويورك تايمز الأميركية “إن أمراء الرياض يواجهون مشكلة رئيسية تتمثل في عدم إدراكهم أن صدام قد مات منذ سنوات ولا يمكن إعادة الزمن إلى الوراء”، في تعبير واضح عن نشوة نظام طهران بالاستفراد بدول الخليج، وكدليل على عدم توقف السياسة التوسعية وتصدير الثورة بعد ستة وثلاثين عاما من قيام ذلك النظام، حيث أصبحت إيران قوة نافذة في كل من لبنان وسوريا والعراق.
اليوم قد لا تقع حرب مثل الحرب العراقية الإيرانية بين العرب وإيران، لكن مسلسل الفوضى وإدامة الأزمات وتهديد أمن الدول سيظل مستمراً، فهل يعود النظام الإيراني إلى الحكمة والعقل ويلتفت إلى شعوب إيران؟