بالمقاييس العادية، فإن لم يكن الاقتصاد الإيراني يشق طريقه بقوة للأمام، فعلى الأقل يجب ألا يتمايل. لكن بحسب غالبية الخبراء، فإن الاقتصاد الإيراني يبدو مبحرا وسط أمواج عاتية تدفع به إلى شاطئ مجهول. في ضوء تلك الخلفية، فإن الجدال الدائر في طهران بشأن استراتيجيات الاقتصاد يعتبر بالغ الأهمية لكل المهمومين بالسلوك الإيراني المستقبلي في المنطقة وخارجها.
للجدل الدائر وجهان: في أحد الوجهين هناك مجموعات من التكنوقراطيين ورجال الأعمال والأكاديميين الذين يصرون على أنه يتحتم على إيران السعي لتتبوأ مكانها الطبيعي في منظومة الاقتصاد العالمي كقوة متوسطة ذات إمكانيات تؤهلها لأن تصبح لاعبا مهما في السوق العالمية. كان الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني مؤيدا متحمسا لهذا الاتجاه، شأن تلميذه الرئيس الحالي حسن روحاني، وفريقه الاقتصادي الذي تلقى أغلب أعضائه تعليمهم في الولايات المتحدة.
تجادل هذه المجموعات المعروفة باسم «طالبي الإصلاح» بأنه، قبل أي شيء، على إيران العمل لتغيير سلوكها، خاصة ما يخص السياسة الإقليمية، إن أرادت الشروع في تبني تلك الاستراتيجية الاقتصادية.
وجاءت الزيارات التي قام بها عدد من الشخصيات الأجنبية البارزة إلى طهران في الشهور القليلة الماضية، تحديدا منذ إطلاق الرئيس باراك أوباما لـ«الاتفاق النووي» لتدلل بقوة على تلك النظرة. كان من بين أبرز المسؤولين نائب المستشار الألماني سيغمار غابريل، الذي زار طهران عدة مرات في أوقات سابقة، ومنسق السياسات الخارجية بالاتحاد الأوروبي تسرينا فيديريكا موغيريني، الداعم المتحمس للجمهورية الإسلامية. كذلك هناك العشرات من الساسة الأوروبيين السابقين الذين يتحدثون بنفس المنطق بهدف جني أرباح ضخمة، بعدما تبدأ الإوزة الإيرانية الذهبية في إنتاج البيض.
وللتأكيد على ذلك، بالمقارنة مع غيرها من «الدول النامية»، تتمتع إيران بالكثير من المزايا، أولاها الاحتياطات الضخمة من النفط والغاز التي تساعدها على الاكتفاء من الطاقة لعقود قادمة. وفي حال وصل معدل استهلاك الطاقة للفرد إلى المستويات الأوروبية، ستحتفظ إيران بمكانها كمصدّر رئيسي للنفط والغاز الطبيعي في المستقبل.
يحتاج الاقتصاد النموذجي الحديث إلى تثبيت نسبة 15 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في المستويات الخاصة والعامة لضمان معدل ملائم لتكوين رأس المال. بالمعنى الصحيح، فإن عائدات صادرات النفط والغاز الإيرانية، والتي تمثل حاليا 12 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، تكفي لتوفير النسبة المطلوبة كاملة.
فالمصادر الطبيعية الإيرانية الضخمة تكملها الإمكانات الزراعية. فحتى وقت استيلاء الملالي على السلطة عام 1979، استمرت إيران تتمتع باكتفاء في الإنتاج الغذائي لأكثر من عقدين من الزمان. وحتى الآن، ورغم الأعوام الثلاثين من سوء الإدارة وهروب الكوادر المؤهلة، لا تستورد إيران سوى 40 في المائة من غذائها. بيد أن هناك عجزا في الماء، ومن ضمن أسبابه أخطاء في تنفيذ السدود والإهمال في شق القنوات والترع، وكانت كلها أسبابا لشح المياه. لكن على الرغم من ذلك، وطبقا لبعض الروايات، بمقدور إيران إضافة 18 مليون هكتار من الأرض الزراعية للجيل القادم.
كذلك يعتبر موقع إيران الجغرافي ميزة نظرا لقربه من الأسواق الكبرى في أوروبا وأوراسيا، ووسط آسيا، والدول الغنية بالنفط، وبالطبع عملاقي آسيا الهند والصين.
لإيران أيضا تاريخ مع الصناعة، ففي ضوء ما يطلق عليه خبراء الاقتصاد «الذاكرة الصناعية»، يرجع تاريخ الصناعة الإيرانية 150 عاما إلى الوراء، ناهيك عن منظومة صناعية تشكلت على مدى 500 عام صنعت من إيران دولة شبه حديثة.
تركيبة إيران السكانية ميزة إضافية أيضا، فرغم عدد سكانها البالغ 80 مليون نسمة، فإنها لا تعاني مما تعانيه غيرها من الدول المكتظة بالسكان والتي تمتلك نفس مصادرها الطبيعية. وفي ذات الوقت، فإن عدد سكان إيران كبير بالقدر الذي يكفي لنشأة الصناعات الكبيرة التي تتطلب سوقا محلية كنواة للنمو.
والأهم من ذلك هو أنه على الرغم من تنظيم معدل المواليد، فإن إيران تتمتع بجيل صغير السن نسبيا، ومعدل تعليم أعلى من غيرها من «الدول النامية» أنتج نحو 15 مليون نسمة في سن العمل ممن يحملون درجات جامعية.
ورغم ذلك، يعتبر أداء الاقتصاد الإيراني ضعيفا، فمعدل البطالة المسجل رسميا بلغ 12 في المائة، رغم أن الغرفة التجارية الإيرانية تزعم أن الرقم يقترب من 25 في المائة. وفي أغسطس (آب) كشفت الحكومة عن خطط «لتقليص أعداد النساء» في سوق العمل بهدف تعزيز الروابط الأسرية. غير أن الهدف الحقيقي هو تقليص البطالة بين الرجال، خاصة فئة الشباب. فتضاعف نسبة البطالة الذي تزامن مع تراجع معدلات النمو بات يهدد بحالة الجمود اللعينة.
في الحقيقة، فلو لم يفرج الرئيس أوباما عن جزء من الأصول الإيرانية المجمدة، ما كانت إدارة الرئيس روحاني لتستطيع سداد أجور 3.4 مليون موظف عمومي على الأقل.
ولعلاج مشكلاتها الاقتصادية، يتحتم على إيران تغيير سلوكها السياسي، وهو ما يعارضه بقوة المعسكر الآخر، أو من يعرفون بالـ«المتشددين». فالمعسكر المتشدد يعتبر بيتا لأفراد المؤسسة الخمينية، بمن فيهم غالبية أعضاء الحرس الثوري الإيراني، ووكالات الأمن الثماني أو التسع، وبقايا اليساريين الذين لم يتبقَ لهم بعد زوال الاتحاد السوفياتي سوى مشاعر مناصرة لروسيا ومعارضة للولايات المتحدة. ففي هذا المعسكر، «المرشد الأعلى» حامل لواء القضية علي خامنئي، يدافع عما ما أطلق عليه «اقتصاد المقاومة»، وهو النسخة الإيرانية من استراتيجية كوريا الشمالية المسماة «استراتيجية جوشي»، وتعني الاعتماد على النفس.
يرى خامنئي أن أي تكامل مع النظام العالمي يعدّ كبداية النهاية للنظام الإيراني. فهو يفضل أن تستمر إيران «فقيرة وعفيفة» على أن تكون «غنية وخاضعة»، فهو يقرأ التاريخ كقصص مؤامرات حاكتها حفنة من الدول الغربية بهدف استغلال حالة الضعف العلمي والصناعي والاقتصادي، الذي تعانيه غيرها من الدول لمصالحها الخاصة.
يخشى خامنئي أن يؤدي انفتاح إيران على العالم الخارجي إلى وضع رقبة إيران في «نير» الديون الأجنبية التي تحتاجها إيران لتشغيل مرافق الصناعات البترولية وإطلاق مشاريع التنمية.
يستند خامنئي دوما إلى التذكير بقوى الغرب وكيف أنها استخدمت «خدعة» الديون لتحطيم الإمبراطورية العثمانية، ثم الخديوية في مصر، والقاجارية في إيران نفسها. وحديثا استخدم الاتحاد الأوروبي «الخدعة» نفسها مع إسبانيا واليونان بإقراضهما مبالغ كبيرة لخلق فقاعة اقتصادية اعتمادا على العقارات والمزايا الاجتماعية للقطاع الخاص. ونتيجة لذلك، أصبحت إسبانيا واليونان عاجزتين عن التصرف من دون الرجوع إلى بنوك أوروبا. وحتى عندما رفض اليونانيون بقوة إبرام تلك الصفقة مع الاتحاد الأوروبي في الاستفتاء الشعبي، انصاع رئيس الوزراء أليكيس تسيبراس، زعيم الاتجاه اليساري المناهض للإمبريالية وشرع في تطبيق الخطة المفروضة بحذافيرها.
وتبقى إيران مجمدة بين الخيارين، وهذا في حد ذاته أسوأ من كلا الخيارين المطروحين على الطاولة.
أمير طاهري
صحيفة الشرق الاوسط