استشرف محللون غربيون وعرب مبكرا الإستراتيجية التي ينتهجها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سوريا منذ بدء التدخل العسكري لموسكو قبل عام، وهي تتلخص في “الأرض المحروقة” و”تجفيف المنابع”.
لم تلجأ مجلات عالمية رصينة مثل إيكونومست وفورين بوليسي إلى التعميم في تصنيف وحشية الغارات التي يشنها الطيران الروسي منذ نحو أسبوعين على مدينة حلب، بل فضلت اختيار واقعة محددة لا يفصل متابع الشأن الدولي عنها سوى 16 عاما.
فقد اختارت الأولى عنوانا رئيسيا لعددها الأخير يقول “قواعد غروزني إذ تُطبّق في حلب”، بينما سبقتها الثانية إلى نشر نص قال عنوانه “بوتين يقصف حلب بوحشية قصفه غروزني”. والإشارتان هنا تحيلان إلىالتدخل العسكري الروسي الثاني في هذه الجمهورية التي سبق لها مطلع التسعينيات التمرد على سلطة موسكو فور انهيار الاتحاد السوفياتي، الذي انتهى بعد حرب استمرت نحو أربعة أعوام بإعلان استقلالها.
لكن فلاديمير بوتين سارع -فور تسلمه الرئاسة بالوكالة خلفا لبوريس يلتسين مطلع الألفية الثانية- إلى نقض الاتفاق الذي كان قد حظي بموافقة بوريس يلتسين عند توقيعه عام 1996، وشن حرب الشيشان الثانية بهدف القضاء على المقاتلين الشيشانيين وأنصارهم الذين كانوا تمددوا باتجاه جمهوريات أخرى شمال القوقاز الواقع ضمن الاتحاد الروسي.
بوتين والمخابرات الروسية استخدما أسلوب الاغتيالات؛ فاغتيل القائد الجهادي خطاب عام 2002 عبر تسميمه، وقتل الرئيس الشيشاني الثاني الذي ناصر الاستقلال أصلان مسخادوف في غارة عام 2005، وتوجت روسيا عمليات الاغتيال بقتل القيادي الشيشاني شامل باساييف عام 2006″
وكان محللون غربيون وعرب استشرفوا مبكرا الإستراتيجية التي ينتهجها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سوريا منذ بدء التدخل العسكري لموسكو قبل عام.
ففي مقال نشر في أكتوبر/تشرين الأول 2015، أي بعد شهر واحد من بدء التدخل العسكري السوري، رأى الكاتب لفيكين شيتريان أن الخيار الروسي في سوريا سيكون شيشانيا وليس أفغانيا، في إشارة إلى استخدام بوتين سياسة “الأرض المحروقة”، لإنهاء المقاتلين على خلاف ما فعلته موسكو أثناء تدخلها العسكري في أفغانستان نهاية السبعينيات.
الأسلحة المحرمة
وحدد الكاتب أساليب بوتين أولا باستخدام “القوة الماحقة” أي إرسال مئة ألف جندي إلى الميدان، بدلا من 35 ألفا أرسلهم سلفه بوريس يلتسين خلال حرب الشيشان الأولى (1994-1996)، كما استخدم بوتين في العملية المدفعية الثقيلة والدبابات والصواريخ والطائرات والأسلحة المحرَّمة كالقنابل الحارقة والأسلحة الكيماوية وسط تجاهل كامل للرأي العام العالمي والمنظمات الإنسانية.
واستمرت المعارك في الشيشان سنة كاملة، ركزت فيها موسكو اهتمامها على اقتحام غروزني بعد محاصرتها، وأطلقت الأمم المتحدة على المدينة بعد الحرب وصفا يقول إنها “الأكثر دماراً على وجه الأرض”. إذ بلغت نسبة الخراب فيها 95%، تماماً كالخراب الذي أحدثته القنبلة الذرية التي ألقاها الأميركيون على مدينة هيروشيما أواخر الحرب العالمية الثانية.
“موسكو ركزت اهتمامها على اقتحام غروزني بعد محاصرتها، وأطلقت الأمم المتحدة على المدينة بعد الحرب وصفا يقول إنها “الأكثر دماراً على وجه الأرض”، إذ بلغت نسبة الخراب فيها 95%”
تجفيف الينابيع
وإلى جانب “الأرض المحروقة” والاغتيالات، اتبع بوتين في غروزني إستراتيجية إقناع المواطنين بمحاربة المتمردين، وهو ما أسماه الكاتب محمد سيد رصاص “تجفيف الينابيع المدنية للمسلحين”. وتتلخص هذه الإستراتيجية في استمالة زعماء شيشانيين استقلاليين عارضوا المقاتلين.
وبين هؤلاء كان مفتى الشيشان السابق أحمد قديروف الذي شارك في مقاومة روسيا في حرب الشيشان الأولى -لكنه حسب شيتريان- “لقي عداءً متزايداً من مناصري الأيديولوجية السلفية الجهادية، التي تتناقض مع التقاليد الصوفية التي يتّبعها الإسلام شمال القوقاز”، وأوصل لعب موسكو على تناقضات الثوار قديروف إلى منصب الرئاسة، قبل أن يغتاله رفاقه القدامي.
وبعد اغتياله في هجوم بقنبلة عام 2005، تولّى ابنه رمضان المنصب، وأقام بدعم وتمويل مباشرين من حزب بوتين (روسيا الموحدة) دولة مستقرة، لكنها عديمة الرحمة”، حسب وصف الكاتب.
الجزيرة