الاقتصاد العالمي المعاصر منذ عام 1980

الاقتصاد العالمي المعاصر منذ عام 1980

580
يقدم هذا الكتاب مراجعة حية للاضطراب الأخير في الاقتصاد العالمي، في سياق رؤية مفصلة للاتجاهات الاقتصادية والتجارية والجيوبوليتيكية التي حددت الأطر الحاكمة للأسواق العالمية منذ الثمانينيات.
وعبر عشرة فصول وخاتمة، يتناول المؤلف التطورات الاقتصادية والسياسية التي شكلت الاقتصاد العالمي المعاصر، ويقدم رؤية تاريخية قصيرة عن الاقتصاد الدولي في أوائل القرن العشرين ومنتصفه، ويبحث الأفكار العريضة للتقدم والنمو، لا سيما ما أثر منها على البلدان الغنية والعالم النامي، مستعرضا أفكار آدم سميث وديفد ريكاردو في القرن الثامن عشر، ومتناولا مفكري الأعمال الأقرب عهدا، مثل جون مينارد كينز وميلتون فريدمان وبيتر دراكر.

كما يتوقف المؤلف ملياًّ أمام الفترة من 1980 إلى 2010، باعتبارها حقبة ذهبية تعيد إلى الأذهان الرخاء السلمي الذي ساد قبل الحرب العالمية الأولى، ويستعرض الإجراءات التي اتخذتها الحكومات لتخفيض الضرائب، ورفع القيود عن الأسواق، وبيع المشروعات المملوكة للدولة، وإزالة الحواجز التجارية، وتخفيض نفقات التسليح إثر انتهاء الحرب الباردة، وأثر ثورة الاتصالات وتدفق المعلومات على أسواق التجارة والمال في العالم.

والمؤلف يعمل أستاذا للتاريخ المعاصر في جامعة أوهايو، وهو رئيس مجلس إدارة ورئيس تنفيذي سابق للاتحاد الدولي للتجارة والتمويل (منظمة للأكاديميين تضم أعضاء من 45 دولة)، وله عدد من الكتب عن التجارة العالمية، والتنافس على الموارد، كما نشر مئات المقالات في بعض الدوريات الأكاديمية والصحف.

عصر العولمة
يرى المؤلف أن العالم مر بحقبة ذهبية خلال الفترة من 1980 إلى 2010، بالرغم من تعدد الصراعات المحلية والإقليمية في جزر فوكلاند والبلقان وأفغانستان والشرق الأوسط وجنوب آسيا وأفريقيا، إذ لم تكن هناك أعمال عدائية بين القوى الكبرى. وشيئا فشيئا خفضت الحكومات الضرائب، ورفعت القيود عن الأسواق، وباعت المشروعات المملوكة للدولة، وشهدت حقبة التسعينيات تخفيضا حادا لنفقات التسليح مع انتهاء الحرب الباردة.

وعلى الصعيد السياسي، جاء سقوط سور برلين عام 1989، وتفكيك الاتحاد السوفياتي أواخر عام 1991، بحالة من التعايش السلمي نسبيا، فسمحت الدول الكبرى لقوى السوق بأن تحيا من جديد، وقاد الرئيس الأميركي رونالد ريغان ورئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر عملية رفع القيود وفتح الطريق أمام الخصخصة.

ويضيف المؤلف أن الملمح المميز لهذه الحقبة هو التحول التدريجي للاقتصادات الكبيرة من التصنيع إلى الخدمات، لا سيما الخدمات المالية والمعلومات، وفي عدد من البلدان ذات الدخل المرتفع ولدت قطاعات الخدمات الناشئة أعدادا كبيرة من فرص العمل، وبالأخص في المملكة المتحدة التي ارتفعت فيها قيمة الخدمات من 56% إلى 76% من إجمالي الناتج المحلي بين عاميْ 1980 و2007، بينما هبط التوظيف في الصناعة من 37% إلى 22%.

واعتبر المؤلف أن التطورات الأكثر إثارة للدهشة جاءت من الدول الشيوعية السابقة التي أصابتها حالة انبعاث رأس مالي. ففي روسيا؛ انتعشت الأسهم، وزاد التعامل من 8% من الناتج المحلي عام 2000 إلى 58% عام 2007.

أما في الصين ذات الاقتصاد المشترك والقيادة السياسية الشيوعية، فقفز التعامل في الأسهم من 60% من إجمالي الناتج المحلي عام 2000 إلى 230% عام 2007، بينما امتد جنون التعامل في الأسهم إلى الأسواق النامية في أنحاء العالم، كالبرازيل والهند وجنوب أفريقيا.

الدول الغنية
ويخصص المؤلف فصلا كاملا لبحث أثر التغييرات الضخمة المرتبطة بالعولمة والأسواق المفتوحة على الدول الغنية التي سيطرت على الاقتصاد العالمي بدءا من عام 1980، وأنتجت 79.1% من صادرات العالم من السلع.

“الاستثمار الأجنبي هو أحد أهم مفاتيح تجارة الصين الآخذة في الاتساع، فعلى مدار السنوات العشر الأخيرة اجتذبت الصين 20% من الاستثمار الأجنبي المباشر للدولة النامية. وبامتلاكها ما يربو على 2.5 تريليون دولار من احتياطي النقد الأجنبي؛ بدأت الصين لعب دور أكثر فاعلية في التجارة والتمويل”

ففي أوروبا -ورغم معارضة بريطانيا لليورو- نجحت مبادرة تكامل أعمق، ونتيجة لمعاهدة ماستريخت عام 1992 تحرك غرب أوروبا لاستكمال السوق الموحدة التي تضم 12 دولة و320 مليون مستهلك، وتطلب التكامل الأوروبي قوة دفع جديدة، وعمقت المعاهدة روابط التعاون في الدفاع والسياسة الخارجية، مما شجع مبادرة السوق الموحدة، ومنح أوروبا قدرة أكبر على المنافسة في الأسواق العالمية.

وفي الولايات المتحدة كان هناك أثر كبير للنزعة الاستهلاكية لدى الأميركيين وشهيتهم -التي لا تشبع- للجينز والأحذية والسيارات، مما جعل أميركا قاطرة عملاقة تجر الاقتصاد العالمي، وتولد الملايين من فرص العمل، حيث وفرت عام 2009 نحو 11.2% من الصادرات العالمية، بينما اشترت 16.7% من واردات العالم.

أما نسبة تجارة أميركا في السلع فارتفعت من 17.4% عام 1980 إلى 24.1% عام 2008، ومع استبعاد التجارة البينية الأوروبية من التقديرات؛ تكون الولايات المتحدة هي ثالث أكبر مصدّر بعد الاتحاد الأوروبي والصين، وثاني أكبر مستود.

أما كندا -التي اتخذت قرارا تاريخيا بالاندماج مع الأسواق الإقليمية والعالمية الناشئة- فيرى المؤلف أن زيادة قدرتها الإنتاجية تأخرت، وتجاوزت تكاليف التصنيع فيها الولايات المتحدة بنسبة 40%، كما أسهمت حواجز التجارة الداخلية بين أقاليمها المختلفة في ارتفاع هذه التكاليف، بينما كان الشعور الانفصالي الكندي الفرنسي في إقليم كيبيك -الذي يعاني الكساد- بمثابة تهديد دائم لبقاء الاتحاد الكندي.

وتأتي اليابان كواحدة من أهم البلدان الغنية، حيث نجحت في زيادة نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي بنسبة 59.2% ما بين عاميْ 1980 و2009، بينما ارتفع احتياطيها من النقد الأجنبي في 2010 إلى تريليون دولار، لتحل ثانية بعد الصين.

العالم النامي
ويتناول المؤلف اقتصاديات الدول النامية، لا سيما تلك التي تملك إمكانية الصعود السريع على سلم التنمية، خاصة دول شرق آسيا التي نجحت في الحد من التضخم، وزاد نصيب الفرد فيها من إجمالي الناتج المحلي بنسبة 594% بين عاميْ 1980 و2009، مقارنة بالنسبة العالمية التي بلغت 60% فقط.

ويتوقف المؤلف أمام ظاهرة الصين التي حاولت الجمع بين الماركسية والرأسمالية، وخلقت اقتصاد سوق اشتراكي يتجه بنظره إلى الخارج من أجل الاستثمارات والآلات والتكنولوجيا والأسواق، وحققت زيادة في نصيب الفرد وصفها المؤلف بـ”الخرافية”، حيث ارتفع مستوى الدخل من 524 دولارا سنويا عام 1989 إلى 6200 دولار في 2009، بنسبة 1083%.

ويرى المؤلف أن الاستثمار الأجنبي هو أحد أهم مفاتيح تجارة الصين الآخذة في الاتساع، فعلى مدار السنوات العشر الأخيرة اجتذبت الصين 20% من الاستثمار الأجنبي المباشر للدولة النامية.

وبامتلاكها ما يربو على 2.5 تريليون دولار من احتياطي النقد الأجنبي؛ بدأت الصين لعب دور أكثر فاعلية في التجارة والتمويل، وضمت قائمة مجلة “فورشن” -الخاصة بأكبر شركات العالم- 46 شركة صينية، أكثرها يبحث عن الموارد الطبيعية في أنحاء العالم القصية.

أما نمور آسيا (هونغ كونغ وسنغافورة وكوريا الجنوبية وتايوان)، فيرى المؤلف أن تجربتها أثبتت أن الدول ذات القيادة القوية والبعيدة النظر يمكنها التغلب على الفقر والاستعمار وتحقيق معدلات نمو سريعة، فقد حذت هذه الدول حذو “يابان ما بعد الحرب”، وفي الستينيات كان دخل كل من كوريا الجنوبية وتايوان لا يختلف عن بعض الدول الأفريقية المستقلة حديثا كغانا، وبحلول عام 2009 كان نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي في النمريْن الآسيوييْن 15 ضعفَ نصيب الفرد في غانا البالغ 1370 دولارا.

“أثبتت تجربة النمور الآسيوية أن الدول ذات القيادة القوية والبعيدة النظر يمكنها التغلب على الفقر والاستعمار وتحقيق معدلات نمو سريعة، فقد حذت هذه الدول حذو “يابان ما بعد الحرب”، وفي الستينيات كان دخل كل من كوريا الجنوبية وتايوان لا يختلف عن بعض الدول الأفريقية المستقلة حديثا كغانا”

وفي الهند ورغم زيادة السكان بنسبة 70% مقارنة بعام 1980، تمكنت هذه الدولة العملاقة من تحقيق زيادة هائلة في نصيب الفرد من الناتج الإجمالي بنسبة 230.4%، أي من 899 دولارا إلى 2970 دولارا في 2009.

فمع انهيار شريكها الأساسي (الاتحاد السوفياتي)، بدأت الهند تحرير اقتصادها والانفتاح على الأسواق التجارية، لكن عدم كفاية الموانئ والطاقة وغيرها من البنى التحتية يعقد جهود زيادة الصادرات.

تحدي الأسواق
يرى المؤلف أن تكامل الأسواق وتدويلها غيّر شكل العالم في العقود الأخيرة من القرن العشرين، فقد امتدت الشركات من غرب أوروبا وأميركا الشمالية واليابان إلى ما وراء حدودها، وأوجدت لنفسها مواقع متقدمة في أسواق جديدة ذات دخل مرتفع. وبحلول التسعينيات، انتقلت هذه الشركات إلى الأسواق الناشئة الرئيسية في البرازيل والصين والهند.

وتمكنت هذه الشركات العملاقة المتعددة الجنسيات من تشكيل شبكات العرض العالمية، التي مكنتها من إنتاج البضائع والخدمات وتوزيعها وتسويقها بالأسعار الأكثر تميزا، وحكمت على الحواجز الحدودية والقوانين الحمائية بأنها مجرد آثار غير مبررة للحرب الباردة.

لكن المؤلف يلفت الانتباه إلى أن الكثير من الشركات المتعددة الجنسيات هي مشروعات مملوكة للدولة، وتحظى بدعم سياسي ومالي هائل من الحكومات.

وحتى أواخر السبعينيات، لم تواجه الصناعات في البلدان الغنية منافسة جادة في أسواقها الداخلية، لكن مع مطلع الثمانينيات قلب رجال الصناعة الأوروبيون واليابانيون الطاولة على الشركات المتعددة الجنسيات، واستهدفوا السوق الأميركية المربحة، واشتدت المنافسة اليابانية لمنتجي الصلب والسيارات والآلات وأجهزة التليفزيون والإلكترونيات الأميركيين، وأصبح الميزان التجاري الأميركي مع اليابان مفتقرا إلى التوازن.

وكشأن الأوروبيين قبل 20 عاما؛ أصبح الأميركيون في أوائل الثمانينيات غير مرتاحين للمد المتزايد للواردات والاستثمارات الأجنبية. وخلال الركود الشديد بين 1981 و1983 اكتسبت الحلول الحمائية جاذبية كبيرة، فتزايد التأييد داخل الكونغرس لإجراءات القيود الطوعية لحماية الصناعة الأميركية من المنافسة اليابانية.

عرض/ هيثم أبو زيد

الجزيرة