في عاصمته العراقية، الموصل، في وقت سابق من الأسبوع الماضي، قال الناطق بلسان وزارة الدفاع الأميركية، بيتر كوك، للصحفيين: “سوف نرى ما إذا كان داعش سيصمد وسيقاتل”. كما لو أن ذلك القول يعني التعريف الكامل للانتصار.
لكن من المحتمل كثيراً أن تكون لدى “داعش”، كما هو التنظيم معروف بشكل عام، خطة مختلفة تماماً في البال: التكتيك الجهادي المتمثل في الهجرة.
تنطوي كلمة الهجرة بالنسبة للجهادي على معنى خاص، باعتبارها تراجعاً ناجحاً ومرحلة لإعادة تجميع القدرات على الطريق نحو بناء خلافة.
قبل عقد كامل، شرحت ماري هابيك، الأستاذة المشاركة في الدراسات الاستراتيجية في جامعة جون هوبكنز، أن خطط حرب الجهاديين تعكس حياة الرسول محمد (ص): “أولاً مكة: خلق طليعة من المؤمنين الحقيقيين. ثانياً الهجرة: الهجرة إلى الأمان وتأمين الأرض. ثالثاً المدينة: إقامة دولة إسلامية، الجهاد في شكل الدفاع والهجوم والغزو وكسب الحلفاء”.
كان تنظيم الدولة الإسلامية في العراق -المجموعة التي أصبحت داعش- قد استخدم مفهوم الهجرة بنجاح كبير جداً. وفي العام 2007، نفذت الولايات المتحدة زيادة في عديد القوات الأميركية في العراق، وأطلقت حملة الصحوة لكسب المواطنين العراقيين. ورد الجهاديون عبر الذهاب إلى ميادين قتال أخرى، بما في ذلك سورية، فقط ليعودوا في العام 2014 للسيطرة على مساحات شاسعة من الأراضي، وليعلنوا عن إقامة خلافة –جزء “المدينة” من الصورة. ولذلك، وخلال أو بعد معركة الموصل، من المرجح أن يعيد “داعش” اتباع النهج نفسه مرة أخرى.
وراء في منتصف آب (أغسطس)، قال اللفتنانت الأميركي شين ماكفارلاند: “إن العدو في حالة تقهقر في كل الجبهات”. لكنه أوضح ما الذي يبدو عليه هذا الانسحاب، بالقول: “كل ما أعرفه هو أننا عندما نذهب إلى مكان ما، يكون الذهاب إليه أسهل الآن مما كان قبل عام. كما أن العدو لا يواجهنا بالكثير من القتال”.
قبل أسابيع عدة، ذكر وزير الدفاع العراقي، خالد العبيدي، أيضاً، أن قادة “داعش” كانوا يخلون مواقعهم قبل الهجوم على الموصل. وأضاف خلال مقابلة مع التلفزيون الحكومي: “لقد باع العديد من عائلات وقادة داعش في الموصل متاعهم وممتلكاتهم وانسلوا باتجاه سورية، حتى أن شريحة منهم حاولت أن تنسل باتجاه منطقة (كردستان العراقية)”.
وإذا كان يمكن تصديق مؤامرات الأخبار الروسية، فسيسمح للمزيد من مقاتلي “داعش” بالانسحاب عبر الحدود السورية خلال المعركة المقبلة، بسبب صفقة مفترضة أبرمتها الولايات المتحدة تحت الطاولة لجعلهم يقاتلون قوات بوتين.
ربما تتعلق الحقيقة الفعلية بالدور الفريد من نوعه الذي تلعبه الحدود في هذا الصراع. ويسيطر “داعش” راهناً على جزء كبير من الحدود السورية التي لم تعد قيد الوجود. لكن الحدود تظهر حالياً في العمليات العسكرية للقوات العراقية وقوات التحالف كما كان الحال في الماضي.
يشرح عبد الباري عطوان في كتابه المعنون “الدولة الإسلامية: الخلافة الرقمية” أن “داعش” عمد في وجه القصف بقيادة أميركية في العراق في منتصف العقد الأول من الألفية الثالثة، إلى تحويل جهوده باتجاه سورية. وقد أخفى المقاتلون في العراق أنفسهم في المدن، بينما تم تنشيط وتفعيل الخلايا النائمة في سورية. وسجل هذا التكتيك نجاحاً مذهلاً. ويقول عطوان: “نتيجة لذلك، ضاعفت المجموعة مساحة الأراضي التي تسيطر عليها في سورية بين آب (أغسطس) 2014 وكانون الثاني (يناير) من العام 2015”.
وذلك هو السبب في أن “داعش” يريدنا أن نسميه “الدولة الإسلامية” فقط: فهم يتجاهلون الحدود ويتواجدون في أماكن أبعد من مجرد العراق وسورية. ويشير عطوان إلى أن جهاديي التنظيم كانوا قد انضموا في السابق إلى القتال في العديد من الأماكن، بما في ذلك أفغانستان والشيشان والبوسنة والهرسك وليبيا. وجهادهم عالمي، وسوف يهاجرون إلى حيثما يوجد قتال.
وتعكس تكتيكاتهم العسكرية هذا، حتى على المستوى الصغير. ويقول عطوان: “بدلاً من القتال حتى الموت، سوف يتملص مقاتلو داعش من المعارك التي لن يكسبوها بوضوح، لكي يعيدوا تجميع أنفسهم في موقع أكثر فائدة -وهو تكتيك استخدمته شبكة تنظيم القاعدة على مدى أعوام عدة”.
لن يقتصر تكتيك التراجع على السماح لـ”داعش” بإعادة التجمع في مكان آخر وحسب، بل إنه يجعل أعداءهم يدفعون ثمناً باهظاً. ويقول الناطق بلسان وزارة الدفاع الأميركية، الكابتن جيف ديفيس، إن تنظيم “داعش” يستخدم المدنيين “قطعاً” كدروع بشرية. وقال لمراسلي واشنطن يوم الثلاثاء: “إنهم محتجزون هناك ضد إرادتهم. ولم نشاهد أي تغيير في اليوم الأخير لأناس يغادرون أو يهربون”.
ومع ذلك، فإن “داعش” آخذ في الانسحاب من القرى المحيطة بالموصل. ويترك مقاتلوه وراءهم منازل مسلوبة ونظام أنفاق موسع. ويحاول القرويون تخليص منازلهم في مشهد يعكس التدمير الأضخم الآتي. وفي الأثناء، يظهر نظام الأنفاق “داعش” عمل بعناية لبناء خطوط إمداد فعالة، بينما تسمح الأنفاق بوجود طريق هروب آمن.
كان الدمار المتخلف في المدن التي استعيدت منذراً بالشؤم بشكل خاص. فالكثير من الرمادي سوي بالأرض تماماً، وقدر مكتب رئيس الوزراء العراقي أن 90 في المائة من المدينة ملوث بالمتفجرات التي استخدمت خلال المعركة. ويشمل ذلك المتفجرات التي لم تنفجر أثناء القتال، بالإضافة إلى المتفجرات التي زرعها “داعش” عمداً في المدارس والمنازل والمستشفيات.
وتجدر الإشارة إلى أن نمطاً مشابها يحدث كلما تمت استعادة مدينة مما يجعل تراجع “داعش” مدمراً جداً في الحقيقة.
ومن خلال التخريب، وعبر حماية أنفسهم خلف المدنيين، من المؤكد أن مقاتلي “داعش” يفرزون من الناحية الفعلية كارثة إنسانية في المعركة الجارية في الموصل. وسوف تكسب الحكومة العراقية وداعموها الأميركيون نصراً (مع أنه قد يكون مكلفاً جداً) نظراً لما تعنيه الموصل: فهي ثاني أضخم حاضرة في العراق، والتي كانت بعد كل شيء، المكان الذي أعلن منه زعيم “داعش” عن إقامة خلافته.
وليس الأمر أن الجيش الأميركي لا يفهم المشكلة. وكان اللفتنانت جنرال الأميركي شين ماكفارلاند قد قال بصراحة في آب (أغسطس) الماضي: “إن النجاح العسكري في العراق وسورية لن يعني بالضرورة نهاية داعش. نستطيع توقع أن العدو سيتأقلم ويتحول إلى قوة متمردة حقاً وتنظيم إرهابي قادر على تنفيذ هجمات مرعبة مثل الهجوم هنا في بغداد يوم 3 تموز (يوليو) والهجمات الأخرى التي شاهدناها حول العالم”.
بعبارات أخرى، سوف يعيد الجهاديون الكرة كما كانوا قد فعلوا في الماضي. وسوف تتكرر الدعوة الموجهة إلى الجهاديين للهجرة إلى “الدولة الإسلامية” مرة أخرى. وإذا تم منع “داعش” من دخول العراق مجدداً، فإن مقاتليه الجهاديين سيذهبون إلى ميادين معارك أخرى، تماماً مثلما كانوا قد فعلوا في السابق في شمال أفريقيا والبلقان وآسيا الوسطى. وبذلك، لا يكون القتال ضد المتطرفين الذين يختبئون في الموصل في نهاية المطاف. إن هذه حرب بلا حدود.
نيكولاس باركدول
صحيفة الغد