مع اقتراب العد التنازلي لانتخابات الرئاسة الأميركية من نهايته، يستحق الأمر التوقف للحظات والتأمل بعمق في ما سيتلقاه الرئيس القادم إلى البيت الأبيض في كانون الثاني (يناير) المقبل، من إرث يتركه الرئيس الحالي الذي يقترب من إنهاء فترة ولايته الثانية باراك أوباما، سواء في ما يخص قضايا الداخل أو ما يتعلق بتحديات الخارج، أي بإيجاز محصلة فترتي رئاسة بإجمالي ثماني سنوات للرئيس الديموقراطي.
هناك الكثير الذي يمكن عرضه وتحليله وتقويمه في هذا السياق، لكن سيتم التركيز هنا قدر الإمكان على القضايا ذات الصلة أو ذات الأهمية للوطن العربي. فإذا كانت ولاية أوباما الأولى شهدت آمالاً للقضية الفلسطينية وتطلعات بقرب تحقيق تسوية بدت تاريخية لقضية العرب الأولى، في ضوء وعود أطلقها الرئيس في مطلع فترة ولايته الأولى بأنه يتطلع إلى التوصل إلى اتفاق نهائي للتسوية على أساس حل الدولتين، وذلك في لغة بدت في كثير من مفرداتها متعاطفة ومتفهمة للمطالب العربية والفلسطينية التقليدية لتحقيق تلك التسوية خلال عام واحد فقط، فإن هذه الآمال سرعان ما تبخرت في الهواء وذهبت أدراج الرياح، وأدرك الفلسطينيون والعرب معهم مع اقتراب الثماني سنوات من الانتهاء أن أي تحسن لم يطرأ، بل تجمدت الأوضاع، بالنسبة إلى القضية الفلسطينية في شكل كامل، بل وفي رأي بعضهم ساءت وتراجعت وضعية القضية في ظل تواصل، بل وتصاعد، سياسات الحكومة اليمينية في إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني وأراضيه، أياً كان السبب في تراجع اهتمام الجانب الأميركي بإنجاز تسوية تاريخية للقضية الفلسطينية: سواء أكان لعجز الإدارة الأميركية عن ممارسة الضغوط المطلوبة على الطرف الإسرائيلي، أو ربما لانشغال الإدارة بقضايا أخرى بدت أكثر أهمية أو أولوية أو إلحاحاً لواشنطن، أو ربما كان لإدراك الإدارة أن القضية الفلسطينية بلغت درجة من التعقيد لم تعد معها خبراتها قادرة على فك رموزها، على رغم ما يثار عن أن هناك مفاجأة ستطرحها إدارة أوباما في الفترة المتبقية لها في الحكم في شأن القضية الفلسطينية، إذ لا يعرف أحد كيف، حتى في حال صدق هذه المقولة، ستتمكن الإدارة من أن تحقق في أقل من ثلاثة شهور ما لم تنجح في تحقيقه على مدار ما يقرب من ثماني سنوات.
أما الملف الثاني الذي واجه أوباما فكان الملف النووي الإيراني الذي مثّل تحدياً، بدا في بعض الأحيان عصياً على الفهم، ناهيكم عن كونه عصياً على المعالجة من جانب الإدارة الأميركية بالشكل الذي يحقق ما ترى فيه تلك الإدارة المصالح الأميركية العليا وبما يلبي متطلبات الأمن القومي الأميركي، كما أنه لم يكن ملفاً فردياً لواشنطن بل اختلطت فيه الأوراق ما بين مصالح أميركية وأخرى أوروبية وثالثة متصلة بمصالح وأمن أطراف إقليمية في المنطقة في حال تحالف تقليدي مع الولايات المتحدة، بل ودخلت على الخط في شأنه أطراف ليست على وفاق في الكثير من الأحيان مع واشنطن وسياساتها مثل الاتحاد الروسي والصين الشعبية. وعلى الجانب الآخر أدار الجانب الإيراني هذا الملف بقدر كبير من الرهان على من يمتلك النفس الأطول وعلى اعتبار أن الزمن يشكل عاملاً في مصلحة إيران، وفي ظل حال نسبية من استقرار وتماسك النخبة السياسية في مواقفها إزاء هذا الملف، وهي كلها أمور جعلت التعامل مع هذا الملف من جانب واشنطن أمراً ليس باليسير، خصوصاً أن المفاوضات بدت متعثرة في أكثر من محطة، وأرجئ الحد الزمني للتوصل إلى اتفاق أكثر من مرة، لكن في النهاية تحقق اتفاق، اختلفت الآراء في شأن تقويمه، خصوصاً من جانب أطراف إقليمية رأت فيه تخلياً أميركياً عن الالتزام بالدفاع عن أمن تلك الأطراف كحلفاء لواشنطن، بينما قوبل بترحيب أكثر من جانب حلفاء الولايات المتحدة في القارة القديمة أوروبا المتطلعين بدورهم إلى مجالات الاستثمار الواسعة والمتنوعة في إيران لمؤسساتهم الاقتصادية الضخمة وكذلك أسواقها الضخمة لاستيعاب واستهلاك الصادرات الأوروبية. لكن الأهم أنه تم الترويج له بقوة في الداخل الأميركي باعتباره انتصاراً عالمياً لديبلوماسية أوباما وإدارته الديموقراطية، وهو الأمر الذي أظهرت غالبية استطلاعات الرأي نجاح الإدارة الأميركية في تحقيقه لدى الرأي العام في الداخل.
ويقودنا الملف السابق ذكره إلى ملف ثالث ذي الصلة بالصراع في الشرق الأوسط هو التحرك باتجاه تحقيق تقدم في شأن نزع السلاح النووي على الصعيد العالمي، وما يرتبط بذلك من إقامة منطقة خالية من السلاح النووي في الشرق الأوسط. وعندما أطلق أوباما تصريحات متتالية في خطب عامة عدة في أماكن متفرقة من العالم، بما في ذلك براغ والقاهرة، في الشهور الأولى من فترة ولايته الرئاسية الأولى، تضمنت التزامات وتعهدات بالعمل على التوصل لاتفاق على التخلص تماماً من السلاح النووي في العالم خلال عام واحد، وصلت الآمال إلى عنان السماء بأن المعجزة ستحدث أخيراً ويصحو العالم ذات صباح ولا يجد كابوس السلاح النووي جاثماً على أنفاسه. وإذا كانت تلك المشاعر سادت على الصعيد العالمي، فعلى الصعيد العربي تطلع العرب بالكثير من الطموح نحو سعي الرئيس الأميركي، الجديد آنذاك، إلى تنفيذ ما ورد في الكثير من قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة والوكالة الدولية للطاقة الذرية، وكذلك ما ورد في قرار خاص صدر لهذا الغرض عن مؤتمر المراجعة لمعاهدة حظر الانتشار النووي الذي استضافته مصر في العام 1995 لإقامة منطقة خالية من السلاح النووي ومن جميع أسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط. إلا أنه، وعلى غرار ما تم في شأن التعهدات التي قطعها الرئيس الأميركي على نفسه تجاه القضية الفلسطينية، فسريعاً ما تبخرت الأحلام بإقامة مثل هذه المنطقة. وحتى على الصعيد العالمي، فإن التقدم نحو حظر إنتاج السلاح النووي والتخلص من المخزون منه اقتصر على اتفاق أميركي – روسي وحيد، رغم أن الرئيس الأميركي نال جائزة نوبل للسلام في أول عام من تواجده في البيت الأبيض على خلفية تصريحاته التي تضمنت تعهدات بالتخلص السريع من السلاح النووي على كوكب الأرض.
وأهم ما يميز الملف الرابع الذي نتناوله هنا مقارنة بالملفات الثلاثة السابقة أنه يجمع، وبدرجة قد تكون متطابقة تقريباً، بين البعدين الداخلي والخارجي معاً. وأعني هنا على سبيل التحديد الموقف تجاه العرب والمسلمين. فعلى الصعيد الداخلي، جاءت ولاية الرئيس أوباما الأولى عقب فترتي ولاية الرئيس السابق جورج بوش اللتين شهدتا في أعقاب اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر) 2001، اتخاذ قرارات وتبني إجراءات رأى فيها بعضهم، ليس فقط تقييداً عاماً للحريات للمواطنين الأميركيين والمقيمين في الولايات المتحدة والمهاجرين والزائرين، بل رأى فيه أولئك تضييقاً أكثر مستهدفاً العرب والمسلمين من تلك الفئات نفسها. ووسط هذه الأجواء الداخلية المتوترة، جاء أوباما ليمثل أملاً في تضميد الجراح، خصوصاً في ظل ما مثله انتخابه من فرصة تاريخية لتخفيف هذا التوتر والتحرك بعكس الاتجاه السابق وإضفاء أجواء مصالحة مجتمعية شاملة، خصوصاً بما يتضمنه ذلك من استيعاب وطمأنة الأميركيين من أصول عربية ومن أتباع الدين الإسلامي. ومن المؤكد أن درجة ما من التقدم تحققت على مدار السنوات الثماني الماضية نحو تلبية بعض تلك التطلعات، ولو جزئياً.
أما على صعيد الخارج، وتحديداً في ما يتعلق بالعلاقات بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي، فإن الموقف كان أكثر تعقيداً وتشابكاً. ويرجع ذلك إلى إشكاليات عدة. فبينما ساد اعتقاد في العالم الإسلامي في بدايات فترة الولاية الرئاسية الأولى للرئيس أوباما بأن آفاقاً جديدة تتفتح أمام العلاقات الأميركية مع العالم الإسلامي، مرة أخرى نتيجة تصريحات وخطب للرئيس الجديد آنداك في بلدان إسلامية (مصر وإندونيسيا وتركيا) بشرت بفصل جديد في تلك العلاقات يتميز نوعياً عما سبقه، فإن مواقف وسياسات خارجية أميركية أثارت كثيراً من علامات الاستفهام، منها ما اعتبره بعضهم تحركاً أميركياً من جديد للتقارب وفتح حوار مع جماعات في العالم الإسلامي تتبنى رؤى للإسلام يتم تصنيفها باعتبارها متشددة وتناهض الحكومات القائمة في بلدانها، ومنها اتهامات صريحة أحياناً وضمنية أحياناً أخرى تبنتها دوائر عدة داخل العالم الإسلامي وخارجه بأن واشنطن تعيد إنتاج سيناريو «القاعدة» من جديد، لكن هذه المرة مع «داعش»، فيما رآه بعض من الجانبين إعادة إنتاج لأنماط للتحالف بين الولايات المتحدة وبعض جماعات ما يسمى بـ «الإسلام السياسي» في عقود سابقة. وهي كلها أمور زادت العلاقة التباساً، خصوصاً مع ترافقها مع عدم خروج الولايات المتحدة العسكري كليةً من أفغانستان والعراق كما كان قد وعد الرئيس أوباما في حملته الانتخابية قبيل فترة ولايته الأولى، واستمرار شبهات بتدخلات لها، في شكل مباشر أو غير مباشر، في أقطار عربية وإسلامية أخرى.
وهكذا، نرى أن الإرث الذي يتركه الرئيس الديموقراطي المنتهية ولايته، على الأقل في ما يخص قضايا متعلقة بالعلاقات الأميركية مع العرب والمسلمين، لا يبدو في مجمله سهل التناول أو المعالجة من جانب من يأتي بعده، سواء أكان خلفه مرشحة الحزب الديموقراطي هيلاري كلينتون أو مرشح الحزب الجمهوري دونالد ترامب. كما أنه سيكون مليئاً بالتوقعات والتطلعات، الواقعية أو غير ذلك، من جانب العرب والمسلمين، سواء داخل الولايات المتحدة أو في العالمين العربي والإسلامي أو في مناطق العالم الأخرى، من جهة، ومن جانب الشعب الأميركي في مجمله من جهة أخرى.
وليد محمود عبدالناصر
صحيفة الحياة اللندنية