فيما تطوق آلة الحرب المدعومة أميركياً آخر معقل للمجموعة المتشددة في العراق، يحذر خبراء من عودة المقاتلين الأجانب الذين قسّتهم المعارك إلى أوطانهم لمواصلة الجهاد هناك.
* * *
بينما تشدد القوات العراقية الخناق حول آخر معقل لتنظيم “داعش” في البلد، فإنها تحاول أن تأمل بأن تفضي الأعمال الرامية إلى مسح خلافتها المعلنة ذاتياً- والتي تميزت بالاغتصاب والتعذيب وقطع الرؤوس من دون محاكمة- إلى توجيه ضربة قاصمة للمجموعة.
ومع ذلك، حتى أولئك المنخرطين في الهجوم المضاد على الموصل- والذي وصف بأنه أكبر معركة في العراق منذ الغزو الأميركي في العام 2003- يقرون بأن الهجوم بدلاً من أن يكون خطوة رئيسية نحو الهزيمة النهائية للتنظيم، ربما يفضي إلى تحول في مسرح الصراع.
ثمة قلق متصاعد في أوساط مسؤولي محاربة الإرهاب من أن تكون آلة الحرب المدعومة أميركياً والتي تطوق “داعش”، إنما تؤسس بغير قصد شبكة للجهاديين في جنوب شرق آسيا والآماكن الأخرى، والتي ستتكون من المتشددين الفارّين الساعين إلى الحصول على ملاذ آمن في بلدانهم الأصلية.
يقول ممثل مكتب الأمم المتحدة لمعالجة المخدرات والجريمة “أوندوك” في جنوب شرق آسيا، جيريمي دوغلاس، لهذه الصحيفة أن “التهديدات التي يشكلها المقاتلون الإرهابيون الأجانب العائدون حقيقية ووشيكة. ومن المتوقع الآن أن يفضي الضغط العسكري المتزايد على “داعش” في سورية والعراق إلى المزيد من العائدين، بمن فيهم العديدون الذين سوف يريدون متابعة الجهاد العنيف في المنطقة”.
ويقدر المكتب أن هناك 516 أندونيسياً و100 فلبيني و100 ماليزي وسنغافوريين يقاتلون الآن في سورية والعراق. وإذا عاد حتى حفنة من هؤلاء المقاتلين الذين عركتهم المعارك إلى أوطانهم، فإنهم يتوافرون على الإمكانية لهندسة هجمات واسعة النطاق تقوم بتنفيذها خلايا صغيرة أو “ذئاب منفردة”.
من جهته، قال نور الهدى إسماعيل، مؤسس معهد بناء السلام الدولي الذي يتخذ من جاكرتا مركزاً له، والذي وصف بأنه “مبلِّغ عن الإرهاب” بسبب جهوده في استئصال المتشددين المتطرفين: “لا نستطيع التقليل من شأن إمكانيات مقاتلي داعش العائدين. ما تزال الهجمات التي تنفذ في جنوب شرق آسيا منذ العام 2002 ترتبط بشبكة واحدة من المقاتلين الإسلاميين (الذين عادوا من أفغانستان) والفلبين”.
ليست هذه المرة الأولى التي تواجه فيها المنطقة دفقاً من المتشددين العائدين. ففي ثمانينيات القرن الماضي، عاد محاربون محليون من الحرب ضد الاحتلال السوفياتي لأفغانستان ليتولوا مواقع قيادية في المجموعة المتشددة الإقليمية المعروفة باسم الجماعة الإسلامية. ومع ذلك، فإن ما يروّع العديد من المراقبين هذه المرة هو الفارق في الحجم.
يقول دوغلاس من المكتب الأممي أن هذا الجيل من المقاتلين الأجانب هو على عكس سابقيه، “العدد الذي سافر هذه المرة أكبر بكثير، وهم أكثر قدرة من الناحية العملياتية، ويتوافرون على وصول إلى موارد وشبكات دولية”.
تهدف القوات العراقية التي تطوق الموصل –حوالي 30.000 جندي مدعومين من مليشيات كردية ومستشارين أميركيين- إلى طرد ما يقترب من 6.000 داعشي من المدينة التي تضم حالياً 1.5 مليون نسمة.
وكان الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند قد حث شركاء الائتلاف المنخرطين في الهجوم المضاد في الأسبوع الماضي على الاستعداد لما سيلي، وقال إن “استعادة المدينة ليست النهاية في حد ذاتها. يجب علينا أيضاً أن نكون حذرين جداً من عودة المقاتلين الأجانب”.
وأضاف هولاند الذي كان يتحدث في باريس مشيراً إلى مدينة الرقة، حيث يوجد نحو 5000 مقاتل آخرين يعتقد بأنهم محاصرون، وحيث من المتوقع تنفيذ عملية تحرير مشابهة ومدعومة أميركياً خلال أسابيع: “إذا سقطت الموصل، فإن الرقة ستكون آخر معقل لداعش”.
تقدر وزارة الخارجية الأميركية إجمالي عدد أفراد المجموعة في العراق وسورية بما يتراوح بين 18.000 و22.000 مقاتل. وكانت العضوية في المجموعة المتشددة التي انبثقت عن تنظيم القاعدة في العراق قد تضخمت بعد أن استولت المجموعة على أراضٍ شاسعة في العراق وسورية في حملة خاطفة في العام 2014. ولاحقاً أعلن زعيم المجموعة أبو بكر البغدادي، تأسيس “الخلافة” الإسلامية، وحث المسلمين حول العالم على الهجرة إليها.
وكان من بين المتشددين الآسيويين من جنوب شرق آسيا الذين يُعتقد أنهم استجابوا للدعوة، الأندونيسيون بهرون نعيم وأبو محمد الأندونيسي “بهرومسياه” وسليم مبارك التميمي “أبو جندل” والماليزي محمد واندي محمد جيدي “أبو حمزة”.
يقول زخاري أبوزا، خبير السياسة والأمن في جنوب شرق آسيا في كلية الحرب القومية في واشنطن، إنه كان لدى الأشخاص الأربعة المذكورين “نفوذ كبير” وشكلوا تهديداً لمناطقهم في الوطن بسبب قدرتهم على إلهام المتطرفين لتنفيذ هجمات في خلايا أو على شكل “ذئاب منفردة.”
وتقول السلطات الأندونيسية أن نعيم كان العقل المدبر وراء هجوم كانون الثاني (يناير) بالقنابل والبنادق في جاكرتا، والذي أسفر عن مقتل ثمانية أشخاص وجرح العشرات.
ويزعم أنه على صلة مباشرة بمجموعة مكونة من ستة أندونيسيين كانوا يخططون لشن هجوم صاروخي على خليج سنغافورة في منطقة وسط البلد انطلاقاً من جزيرة مجاورة. وكانت الخطة قد أحبطت بفضل اعتقال الرجال خلال غارة شنت قبل بزوغ الفجر في وقت مبكر من آب (أغسطس) الماضي.
وفي الأثناء، تقول الشرطة الماليزية أن واندي كان وراء أول حادث يتصل بداعش نفذ في البلد -هجوم بقنبلة يدوية في حزيران (يونيو) الماضي على حانة في أطراف العاصمة كوالالمبور، والذي أسفر في حينه عن جرح ثمانية أشخاص.
وقال أندريان راج، المدير الإقليمي للرابطة الدولية لمحاربة الإرهاب ومحترفي الأمن التي تتخذ من ماليزيا مركزاً لها، أن شريط فيديو أظهر واندي وهو يدعو مؤيديه الذين لم يستطيعوا توفير كلفة السفر إلى سورية والعراق إلى “المساهمة في قضية داعش من خلال مهاجمة بلدانهم الأصلية”.
ولنعيم البالغ من العمر 33 عاماً سجل عام ضخم بسبب نشاطاته في وسائل التواصل الاجتماعي. وقد استطاعت هذه الصحيفة الوصول إلى موقع ألكتروني يزعم أنه مرتبط به، والذي يضم موضوعات عن صنع القنابل واستطلاع المواقع الألكترونية السرية أو “التشمم”، وتعليقات عن حالة التشدد الإسلامي في بلدان آسيوية متنوعة. وهناك أيضاً قناة إذاعة أوتوماتيكية مرتبطة معه على تطبيق “تلغرام” فائق الأمن للهواتف الخلوية.
وقال أبوزا أن الأندونيسي الماهر في استخدام المواقع الألكترونية كان “مفتاحاً” لجهود التجنيد لدى “داعش” في جنوب شرق آسيا. وقال أيضاً: “نعيم يسيطر على بعض أهم وسائل التواصل الاجتماعي، وهو يعتبر مُجنِّداً رئيسياً” للمتطرفين.
وأضاف أبوزا: “لكنني أشك في أن أياً من الأشخاص (الأربعة) يستطيع العودة بنجاح إلى جنوب شرق آسيا. إنهم يتمتعون -كما هو واضح- بتأثير كبير وأثبتوا قدرتهم على التنظيم، أو ببساطة الإلهام بشن هجمات في الوطن. وسيطالب “داعش” أعضاءه والموالين له بشن المزيد من الهجمات نظراً إلى أنه يتكبد الخسائر في ميدان المعركة. لذلك سيكون هؤلاء الأربعة مهمين”.
ويقول بعض المحللين أن هناك القليل من التركيز على تهديدات “داعش” التي تخرج من بلدان في جنوب شرق آسيا، سوى في ماليزيا وأندونيسيا ذاتي الأغلبيات المسلمة.
وقال تقرير صدر الأسبوع الماضي عن معهد تحليل سياسة الصراع في جاكرتا أن أجهزة محاربة الإرهاب في جنوب شرق آسيا واجهت فجوة معرفة عن التطورات المرتبطة بتنظيم “داعش” في الفلبين.
وأضاف التقرير: “إن الفلبين مهمة لأنها تعتبر امتداداً للخلافة في المنطقة كلما تعلق الأمر بداعش. وفي حين أنه لم يتم إعلانها ولاية… فقد أقر داعش تعيين أحد قادة أبو سياف، أسنيلون هابيلون، كأمير لجنوب شرق آسيا، وأعلن الجنوب شرق آسيويين في سورية ولاءهم له”.
يشار إلى أن مجموعة أبو سياف هي مجموعة متشددة إسلامية تعمل في جنوبي الفلبين، والتي جمعت ملايين الدولارات من الأتاوات وعمليات الخطف والقرصنة. وكانت وزارة الخارجية الأميركية قد وضعت مكافأة قيمتها 5 ملايين دولار لمن يأتي برأسه لأنه قتل أميركيين في العام 2001. وقالت أندونيسيا في الأسبوع الماضي أن بعض مواطنيها سافروا إلى الفلبين للتدرب مع المتشددين الإسلاميين هناك.
وقالت ثاناوان كلوملومتشيت، ضابطة برنامج محاربة الإرهاب في مكتب الأمم المتحدة في جنوب شرق آسيا، أن قدرات أبو سياف “في الاستدامة والنجاة من الضغط العسكري سوف تكون عاملاً مهماً في تطور داعش في المنطقة”.
وأضافت: “ستكون كذلك بشكل خاص إذا واجه داعش حاجة متنامية إلى إعادة توجيه مقاتليه وموارده وعملياته خارج سورية والعراق”.
وفي تايلاند، كما قالت ثاناوان، هناك “تقارير عن إرهابيين مشبه بهم ومقاتلين إرهابيين يستخدمون البلد لتمويه أنماط السفر والترانزيت وللحصول على وثائق سفر مزورة”.
وأضافت أيضاً: “بينما يعتبر التهديد المباشر من داعش محدوداً في الوقت الراهن، ثمة مخاوف عن احتمال أن تجد دعاية داعش أصداء بين المتطرفين العنيفين في عمق الجنوب”.
وتجدر الإشارة إلى أن عمق الجنوب في تايلند ما يزال يشهد عنفاً من متمردين مسلمين منذ بعض الوقت.
وقال جوزيف باركس، محلل الأمن في آسيا في مؤسسة الاستشارلت ضد المخاطر، فيريسك مابلكروفت، أن سنغافورة وماليزيا صعدتا من جهودهما المتقدمة الهادفة إلى “منع أثر أي هجوم والتخفيف من حدته إلى أدنى مستوى”. وقال إنهما “كليهما أقرتا بأن الهجمات على تراب بلديهما هي مسألة متى وليس إذا”.
ومع ذلك، قال إن مستوى التهديد الكلي للمنطقة يجب أن يؤخذ في المنظور. وأضاف: “يعتبر الدعم للدولة الإسلامية في الكثير من جنوب شرق آسيا منخفضاً جداً، وبالمعاني المطلقة والنسبية، هناك عدد أقل بكثير من المواطنين الذي سافروا للقتال مع داعش من جنوب شرق آسيا مقارنة مع الذين سافروا من أوروبا”.
وبالنسبة لنور الهدى، فإن حملة “العقول والقلوب ربما تهدف من وراء إعادة المقاتلين الأجانب وعائلاتهم إلى إمكانية جعلهم مفتاحاً للإبقاء على ذلك التهديد تحت السيطرة”.
وتجدر الإشارة إلى أنه يعمل حالياً على إعداد عرض وثائقي سيبين العذاب النفسي الذي واجهته امرأة أندونيسية متوسطة العمر يقاتل ابنها وزوجها في صفوف داعش في سورية.
وكان عرض وثائقي سابق أنتجه تحت عنوان “الجهاد السلفي” ويستعرض جهود أم أندونيسية لثني ابنها المراهق عن حمل السلاح مع داعش، قد لقي إشادة كبيرة هذا العام بسبب تصويره الدور بالغ الأهمية الذي تلعبه العائلات في إبعاد أبنائها المتشددين عن العنف.
وقال نور الهدى: “يجب علينا أن نتصدى لسرد داعش الذي يجتذب رجل الشارع… هناك ثمن اجتماعي للإرهاب”. وخلص إلى القول: “إننا لا نستطيع ترك محاربة الإرهاب للدولة وحسب”.
بهافان جايبراغاس
صحيفة الغد