“كِلُّن حراميِّة” هي النظرة الأكثر شيوعاً وتداولاً في الشارع اللبناني عن السياسة اللبنانية. وتسمع هذه العبارة من البائعين المتجولين في الشوارع، ومن الجرسونات والطلبة والمعلمين والمهندسين، ومن سائقي سيارات التاكسي والأطباء، ومن المسلمين والمسيحيين على حد سواء. باختصار، إنها وجهة النظر التي توحِّد هذا البلد المتشظي على نحو أبدي.
وهكذا، عندما انتخب ميشال عون، الرجل المستقل والجنرال الذي تحول إلى سياسي وأنجز طموحه الذي طالما حلم به بأن يصبح رئيساً يوم الاثنين الماضي، كانت ردود فعل معظم اللبنانيين تتسم باللامبالاة. فالرئيس الجديد ليس إلا اسماً آخر، لقباً آخر وفصلاً آخر وحسب من دراما البلد السياسية، والذي لا يعني شيئاً في نهاية المطاف.
لكي يصبح رئيساً، توصل عون، الزعيم المسيحي الرئيسي في البلد، إلى صفقة مع خصمه لأمد طويل، سعد الحريري، زعيم كتلة المستقبل السنية المنافسة. وكجزء من الصفقة، سيصبح الحريري الآن رئيساً للوزراء. ولكن، ومن أجل أن تؤتي الصفقة أكلها، فإنها تحتاج إلى موافقة الرجل الأقوى في لبنان -حسن نصر الله، زعيم حزب الله.
بالنسبة للناس العاديين، تشكل هذه كلها لعبة كراسٍ موسيقية. أما وقد بلغ الانفصال بين الطبقة السياسية في البلد والناس مبلغه، فإن المواطن اللبناني الاعتيادي لم يعد يستطيع أن يحدد الفرق بين أن يكون للبد رئيس أو لا يكون. ولم يكن لدى لبنان قبل يوم الاثنين رئيس في الحقيقة لأكثر من عامين -ولكن لم يكن بالوسع تمييز هذه الحقيقة في شوارع بيروت. فرئيس أو بدونه، لا يوجد في لبنان حكم فعال لعقود.
لطالما لوحت الحركة الوطنية الحرة التي يقودها عون بطموحها إلى تقوية الدولة وإصلاح مؤسساتها. لكن النظام السياسي في لبنان يستند إلى تقاسم السلطة، وليس القيادة. وقبل عمل أي شيء، يجب أن توافق عليه المجتمعات السنية والشيعية والمسيحية والدرزية في البلد.
والمعروف أن أمراء الحرب في لبنان نادراً ما يتوافقون على أي شيء. ولا غرابة والحالة هذه أن يستغرق أمر الاتفاق على انتخاب رئيس عامين.
لكن صفقة الأسبوع الماضي تخفي وراءها ديناميات السلطة الحقيقية في البلد. إن حزب الله -الفصيل الوحيد من الحرب الأهلية في الثمانينيات الذي ما يزال يحتفظ بقوة شبه عسكرية- يشكل أقوى قوة في لبنان. ويتلقى حزب الله مساعدات مالية وعسكرية من إيران، وله مقاتلون أشداء ومتمرسون في المعارك، والذين قوَّتهم أعوام طويلة من الحرب ضد إسرائيل. كما تنامت القدرة العسكرية للمجموعة نتيجة للحملة الراهنة لدعم نظام الأسد في سورية. ولا توجد أي قوة أخرى في البلد، بما في ذلك الجيش اللبناني، تستطيع مجاراة الجناح المسلح لحزب الله.
هذا ما يفسر السبب في وجوب الحصول على مباركة الحزب لشغل الرئيس مقعد الرئاسة أو لتشكيل الحكومة. ولكن، وحتى لو عملت الحكومة، فإنها لن تكون قادرة على تمرير أي سياسات من دون موافقة نصر الله. ومع ذلك، لم توصل سياسة حرب الله طيلة العقد الماضي إلى حوكمة فعالة؛ بل إنها تريد جعل الحكومة اللبنانية ضعيفة جداً بحيث تكون غير قادرة على تحدي “دولة حزب الله داخل الدولة” اللبنانية.
على الرغم من تمتع حزب الله بنفوذ استثنائي في المسرح اللبناني المحلي، فإن المجموعة المتشددة تفضل إدارة شؤونها الخاصة في إطار مجتمعها الداخلي، بينما تضطلع بلعب دور الحد الأدنى في الحكومة المركزية. وتستقي المجموعة القسم الكبير من شرعيتها من تقديم خدمات أساسية، مثل الرعاية الصحية والتعليم والأمن للمجتمع الشيعي الضخم في البلد. لكن حكومة قادرة تستطيع النهوض بهذه الخدمات الأساسية يمكنها أن تتقاسم كعكة حزب الله. ولذلك، وعلى الرغم من أنه ربما يكون حليفاً، فإن نصر الله لن يسمح بمرور رؤية عون لتأسيس دولة متمكنة.
بدلاً من ذلك، ستأخذ الفصائل المتنافسة ملفاتها الخاصة في الحكومة بقيادة الحريري، وسوف تقوي وتغني نفسها وتفشل في إنجاز الكثير من أي شيء. وهذه هي الكيفية التي ما تفتأ تدار من خلالها اللعبة منذ اتفاقية الطائف في العام 1989. والمعروف أن اتفاقية الطائف وضعت حداً للحرب الأهلية اللبنانية، لكنها أحالت سلطة الدولة من الناحية الفعلية إلى ثلاثة مواقع رئيسية محجوزة لثلاث دوائر انتخابية رئيسية: الرئيس (مسيحي ماروني)، رئيس الوزراء (مسلم سني) ورئيس البرلمان (مسلم شيعي). وفي هذا النظام، بالتصميم، لا يستطيع أي زعيم أو حزب ممارسة الحكم وحده، وتتمتع كل الفصائل الرئيسية بحق نقض السياسة. وعادة ما تكون النتيجة هي الشلل عندما لا تستطيع المجموعات المختلفة التوافق على حل وسط.
هذا النظام غير العامل يفسر السبب في أن لبنان ما يزال، بعد 26 عاماً، غير قادر على تزويد مواطنيه بتيار كهربائي لمدة 24 ساعة في اليوم، أو توفير مياه نقية على مدار العام بالرغم من وفرة موارد المياه. وهو يفسر السبب في أنه لا يوجد استثمار في تطوير الوظائف والبنية التحتية أو الصناعة، ما أفضى إلى ثبات معدل الهجرة العالي. وهو السبب في أن كلفة المعيشة باهظة جداً. وهو السبب في أنها لا توجد سياسة متماسكة فيما يتعلق بالتعامل مع أزمة اللجوء السوري -أو حتى حول كيفية توفير معظم الخدمات الأساسية مثل التخلص من النفايات. وبذلك، لم تؤت صيغة اقتسام السلطة في لبنان أكلها، وإنما عززت وحسب سلطة نفس اللاعبين الذين خاضوا الحرب الأهلية وحطموا البلد.
لكن هذه هي الكيفية التي يريدها أمراء الحرب. فمع كل خصوماتها، تستفيد الفصائل المختلفة من وجود حكومة مركزية ضعيفة وغير فعالة، والتي تسمح لكل طرف بنحت إقطاعيته. وقد أجبر الفشل التام للدولة اللبنانيين على التعايش مع اقتصاد غير رسمي في جزئه الضخم. وذلك هو السبب في أن الاعتماد على الشبكات الرعوية لغاية التوظيف والإسكان والأمن يكون كبيراً جداً. وتجدر الإشارة إلى أن معظم اللبنانيين يعتمدون على نفس “الحرامية” الذين يكرهونهم بعمق، لكن هذا الاعتماد يحول دون اتخاذ عمل شعبي جماعي ضد حكامهم.
بينما يتشارك العديد من اللبنانيين في ازدراء قادة بلدهم، فإن الثورة ضدهم تنطوي على تهديد معيشتهم. وكانت قد جرت محاولات للتعبئة وكسر حكم القلة السياسي، مثل قائمة “بيروت مدينتي” المستقلة التي خاضت بشجاعة -وخسرت انتخابات بيروت البلدية لهذا العام. وتخطط هذه الحركة حالياً لدخول السباق البرلماني المرجح إقامته في العام 2017. لكن قادم الأيام ستبيّن ما إذا كانت الحركة ستحدث تأثيراً أم لا.
يشير واقع الحال إلى أن اللبنانيين عالقون في نظام فاسد وشرير يجعلهم تحت رحمة قادة لا اهتمام لهم ولا مصلحة في تحسين حيواتهم. ولن يقدم رئيسهم الجديد أي مهرب من هذا النظام، وإنما استمرار له وحسب. وبينما يحتفي داعمو عون بفوزه، فإن الأمور تجري بالنسبة لمعظم اللبنانيين كالمعتاد.
أنطوان عيسى
صحيفة الغد