ينصبّ التفكير في مرحلة ما بعد المعركة الجارية لاستعادة مدينة الموصل مركز محافظة نينوى العراقية من تنظيم داعش، بشكل أساسي على المعطى السياسي والأحقية بإدارة شؤون المحافظة التي يتعايش فيها طيف متنوع من الأعراق والمذاهب، ومقدار الحفاظ على علاقتها بالمركز في ظل ظهور مطالبات بتحويلها إلى إقليم بإدارة محلية واسعة الصلاحيات على أرضية أن سوء إدارة هذه المحافظة من قبل الحكومة المركزية في بغداد هو ما أدى إلى وقوعها تحت سيطرة تنظيم داعش صيف سنة 2014 وما جرّه ذلك من مآس لسكانها.
لكنّ التفكير في مصير الموصل بعد “التحرير” لا يخلو من جانب حيوي أكثر التصاقا بحياة الأهالي، يتعلّق بمصير ما يقارب 1,5 مليون من السكان المعرّضين في الوقت الراهن لمخاطر كبيرة بفعل المعارك التي باتت تدور داخل أحيائهم وبين منازلهم.
وبفعل ذلك أصبحت مغادرة المدينة هدفا يساوي النجاة من الموت والحفاظ على الحياة، رغم أنّ المغادرة تعني في المقابل التشرّد والتفريط في الممتلكات وخسارة مواطن العمل ومصادر الرزق والانقطاع عن الخدمات، دون وجود أفق واضح لاستعادة كل ذلك لاحقا والمدى الزمني الذي يمكن أن تستغرقه فترة النزوح والتشرّد.
وتؤشر معطيات الميدان القائمة حاليا إلى معركة عالية التدمير في الموصل التي تحصّن داعش بداخلها وقرّر خوض الحرب بشكل انتحاري، في مقابل توجّه القوات العراقية والتحالف الدولي نحو التعويل على كثافة النيران وتمهيد ميادين المعارك بالقصف المدفعي والجوي.
وسبق لمدن عراقية مستعادة من داعش أن شهدت هذا الأسلوب في القتال الذي أتى على معظم بناها ومرافقها العامة والخاصة.ويطيل الدمار الذي يطال المدن العراقية من معاناة سكانها إلى فترات زمنية لا يُعلم مداها، خصوصا وأن إعادة تأهيل المناطق المستعادة من داعش أمر لن تقوى عليه الحكومة العراقية، لا لأنها لا تملك الأموال الكافية للتصدي لمشكلة معقدة من نوع البنية التحتية التي دمرت في تلك المناطق، فحسب، بل أيضا لأن تلك المناطق ليست آمنة بالكامل، حتى بعد استعادتها، بدليل ما يحدث بين حين وآخر من هجومات مفاجئة تقوم بها عناصر داعش على مناطق يفترض أن الجيش العراقي قد تمكن من السيطرة عليها، إضافة إلى بطء عملية إزالة الألغام، وعدم فاعليتها في أحيان كثيرة.
ويعاني الجيش العراقي بحدّ ذاته من خلل في طريقة تعامله مع سكان المناطق المستعادة، بسبب تركيبته الطائفية المغلقة وهو ما يعقّد مسألة عودة الكثيرين إلى مناطق سكناهم، خوفا مما يمكن أن يتعرضوا له من اعتقالات عشوائية لمجرّد الاشتباه في أن لهم صلة ما بداعش.
الدولة العراقية لا تملك خططا واضحة لترتيب الأمور في المدن والمناطق المستعادة من داعش وتصريف شؤون سكانها
كما أن الدولة العراقية بسبب هشاشتها لا تملك خططا واضحة لترتيب الأمور في تلك المدن المهدمة وتصريف شؤون سكانها الملحة وبالأخص على مستوى الخدمات الأساسية كالتعليم والوضع الصحي والماء الصالح للشرب والكهرباء.
وعلى مستوى العجز المالي، فإن الحكومة العراقية لن تستطيع سد ذلك العجز عن طريق الأموال التي تعهدت الدول المانحة بتقديمها، فتلك الدول وبسبب الفساد المستشري في مختلف مؤسسات الدولة لا يمكنها أن تثق بالحكومة، كما أن تلك الدول لا تجد أي جهة عراقية أخرى موثوق بها، يمكنها أن تتعامل معها.
وسيكون من الصعب معرفة الكيفية التي ستتعامل من خلالها الحكومة العراقية في مرحلة ما بعد داعش، ما دامت خيوط الثقة مقطوعة بينها وبين مَن سبق أن أطلقت عليهم اسم “خلايا داعش النائمة”، وهي تقصد الإشارة إلى المذهب الديني لسكان المناطق التي سبق للحكومة العراقية نفسها أن تخلت عنها بيسر للتنظيم الإرهابي.
وتواجه المناطق العراقية التي تتم استعادتها من تنظيم داعش تحديات كبيرة ويجد سكانها صعوبة في استعادة النسق الطبيعي لحياتهم بفعل الدمار الهائل في البنى التحتية وفقدان المرافق الضرورية، وخسارة مصادر الرزق.
وتعيش مدن كبيرة مثل الرمادي، أزمات مركبة، ففضلا عن المخاطر الأمنية المتعلقة بالعبوات الناسفة غير المنفلقة، التي تنتشر بكثرة في المناطق المأهولة، هناك مشاكل نقص الخدمات، ورفض الكوادر الحكومية مغادرة المقار البديلة والالتحاق بالمقار الأصلية.
فمعظم موظفي مناطق مثل الرمادي والفلوجة وهيت في الأنبار، وبيجي في صلاح الدين، والقيارة في نينوى يرفضون مغادرة المقار البديلة والعودة إلى مدنهم، بسبب نقص الخدمات فيها، لذلك تواجه مدارس وجامعات ومستشفيات هذه المناطق مشكلة في توفير الكادر اللازم لاستئناف نشاطها.
وفي الرمادي، عاد نحو 70 بالمئة من سكان المدينة البالغ عددهم نحو 600 ألف نسمة، وفي هيت كانت نسبة العائدين أكبر، ولكن الوضع في الفلوجة يختلف، إذ تحول تجربتي الرمادي وهيت دون عودة سكان الفلوجة.
واستقر موظفو هذه المناطق بعد نزوحهم فرارا من داعش، ولاحقا من الحملات العسكرية عليه، في بغداد وإقليم كردستان، واستأجروا منازل هناك، وألحقوا أبناءهم بالمدراس، وأصبحت عودتهم إلى مناطقهم تستلزم ترتيبات كثيرة، وليس هناك ما يشجعهم على العودة الى منازلهم لأنها تقع في مدن قلقة أمنيا، وشحيحة الخدمات.
وتحتاج منطقة مثل القيارة، بجنوب الموصل إلى عودة سكانها لتثبيت الأمن، وهذا يتطلب تشغيل المؤسسات الحكومية، المدنية والعسكرية، ولكن موظفي هذه المؤسسات يعتقدون أن الوضع في المنطقة ليس آمنا بما يكفي، وهو أمر ينطبق على الفلوجة.
ويبدو الأمر كالدوران في حلقة مفرغة، حيث تتطلب عودة سكان المناطق المستعادة وجود الخدمات.
ويتطلب توفير الخدمات بدوره وجود موظفين، وعودة الموظفين تتطلب بيئة آمنة، ولن تتوفر هذه البيئة بلا عودة السكان. والسؤال الذي يطرحه الجميع الآن: بماذا يجب البدء أولا؟
كذلك يلقي الوضع الاقتصادي والمالي المعقّد بظلاله على قضية عودة الحياة الطبيعية إلى المناطق العراقية المستعادة من داعش. فالحكومة المركزية لا تملك الأموال اللازمة لتشغيل المؤسسات في تلك المناطق، وفي أغلب الأحيان يتم الاعتماد على متبرعين محليين أو خارجيين لتوفير التمويلات.
والجميع في هذه المناطق ينتظر أموال المانحين الدوليين، لكنها تأخرت كثيرا، بسبب سمعة العراق السيئة في مجال الفساد الحكومي، حيث يريد المانحون الدوليون شريكا موثوقا حتى لا تضيع الأموال هدرا بفعل السرقات التي سبق أن طالت بالفعل هبات ومساعدات مخصصة للنازحين.
صحيفة العرب اللندنية