في العالم المثالي، يجب أن يعقب طرد مجموعة متشددة ارتكبت علناً جرائم الإبادة الجماعية وانخرطت في التطهير العرقي والديني، جهدٌ للتهديد على الوحدة الوطنية. لكن من المؤسف أن هذا ليس هو واقع الحال في محافظة نينوى العراقية التي مزقتها الحرب.
ثمة العديد من المجتمعات التي حولتها مجموعة “داعش” الإرهابية إلى ضحايا تفكر راهناً في مصيرها ومكانها في عراق ما بعد تحرير نينوى؛ آخر محافظة عراقية يسيطر عليها التنظيم الإرهابي. ويجب على الأيزيديين والمسيحيين والشيعة والتركمان عموماً التوافق على ضرورة أن تتضمن الترتيبات الإدارية الجديدة منح كل مجموعة منها درجة من الحكم الذاتي، بينما يتم الاعتراف بسيادتها على الأرض التي تعيش عليها. وسوف تبقى هناك ثلاثة أسئلة مفتوحة عندما تنتقل المباحثات من العموميات إلى الخصوصيات: ماذا سيكون المدى الجغرافي لهذه الأرض؟ وما هو الشكل الإداري الذي ستتخذه، وما حجم الحكم الذاتي الذي قد تتمتع به؟ وأخيراً، إلى أي حكومة ستعلن ولاءها -للحكومة المركزية في بغداد أم لحكومة كردستان الإقليمية في أربيل؟
من نافلة القول الإشارة إلى أن نينوى تعد القلب في أرض بلاد الرافدين الشمالية التاريخية. وقد جاء تنوعها العرقي واللغوي والديني والثقافي نتاجاً لقرون من الغزوات والتجارة والهجرة والنزوح والاندماج. وكانت الروايات المتنافسة التي تبرز أهلية العديد من المجتمعات في المنطقة قد بنيت على التاريخ المسرود والمكتشف والمتخيل؛ حيث تعايشت هذه المجتمعات طيلة القرن الماضي. وقد استقطب التتابع الحديث للمآسي التي تعصف بالمنطقة هذه الروايات ودفع بها في اتجاه الدعوات إلى الانفصال.
الصورة الأيزيدية الذاتية هي واحدة تكشف عن استقلالية شرسة وعناد كبير. لكنها، مع ذلك، تشي بوطنية عراقية فخورة. وقد أصبح شعور بالتعرض للخيانة يعتمل في نفوس الكثيرين من المجتمع الأيزيدي نتيجة لرد الفعل غير المناسب والذي يستحق الإدانة، الذي صدر عن مواطنيهم العراقيين (بالإضافة إلى باقي العالم) تجاه عمليات الإبادة الدنيئة والاسترقاق والاغتصاب التي ارتكبها “داعش” في حقهم. كما يمتد غضب الأيزيديين ليشمل قوات البشمرغة الكردية، في غمرة اتهامات لها بالتخلي عنهم في أوج هجوم “داعش”. ويعكس الدعم الذي يقدمه المسلحون الأيزيديون لحزب العمال الكردستاني -الميليشيات الكردية الانفصالية العاملة في جنوب شرقي تركيا- تردد أبناء هذا المجتمع في الاصطفاف فقط مع الحكومة الكردية في أربيل. وينعكس عمل خلق التوازن لدى الأيزيديين على المستوى الشعبي بين حزب العمال الكردستاني والبشمرغة في المستويات الأعلى عبر محاولة شخصيات سياسية وثقافية أيزيدية المحافظة على علاقات متوازنة مع بغداد وأربيل. وثمة توقع لإنشاء محافظة مستشرفة، يهيمن عليها الأيزيديون والتي ستكون عاصمتها سنجار في وقت لاحق. وفي حين ستبذل حكومة إقليم كردستان قصارى جهودها لتقوية نفوذها في سنجار مع الوقت، فإن الترتيبات المبدئية ستؤطر المحافظة المستشرفة كتابعة لبغداد.
كما تستطيع بغداد أن تثق بولاء محافظة ذات أغلبية تركمانية شيعية، والتي تم اقتراحها بحيث تكون مدينة تلعفر لتكون عاصمتها. وفي وفاء لادعائه بأنه لا يمارس التفرقة على أساس الخلفية العرقية، أخضع “داعش” التركمان الشيعة للمعاملة نفسها التي عامل بها الشيعة العرب؛ حيث قام تجزيء السكان وقام بإزالة الأضرحة الدينية ونزع ملكية الممتلكات كافة. وبعد أن لجأوا إلى الأرض الشيعية العراقية، عاد العديد من التركمان المتشددين إلى نينوى كجزء من وحدات الحشد الشعبي التي تهيمن عليها الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران. وبينما تظل مشاركة وحدات الحشد الشعبي الشيعية في معركة الموصل مثيرة للجدل وتلقى معارضة من جانب العديد من القادة السياسيين والقبليين السنة، فقد تم تحديد مدينة تلعفر والمناطق المجاورة لها أصلاً كمنطقة عمليات لهذه القوات الشيعية في إطار الجهد الرامي إلى محاربة “داعش”. وسوف تكون المحافظة المفترضة التي سوف تنجم في أعقاب المعركة كياناً إدارياً شيعياً غير مسبوق وبعيد عن المحافظات الشيعية المتصلة في وسط وجنوبي العراق. وربما يتم تعزيز الشخصية الدينية لهذه الأرض، في تناقض مع الشخصية العرقية التركمانية، من خلال توسيعها لتضم أقلية الشباك، الطائفة الشيعية المهرطقة التي تتحدث اللغة الكردية. ومن المتوقع أن تصبح هذه المحافظة أصلاً كبيراً لبغداد في جهودها لتعقيد المطالبات بإقامة منطقة فيدرالية سنية. كما أنها يمكن أن تساعد الحكومة المركزية أيضاً في لجم أي توجه تحريري وحدوي لحكومة إقليم كردستان في المحافظة التي ستصبح قريباً محافظة نينوى سابقاً.
المسألة المسيحية
يمكن توقع أن تقوم أربيل بدفاع قوي عن مصالحها من خلال محاولة تعديل المطالب والرغبات بالحصول على جيب مسيحي. وبينما يتألفون من عدد من الطوائف التي تمارس طقوساً مختلفة والتي تأتي من خلفيات تاريخية وعرقية مختلفة، فإن مسيحيي العراق موحدون بكونهم شريحة هشة من السكان الذين عانوا من استزاف حاد وقاس منذ سقوط نظام صدام حسين.
وكان المسيحيون في الموصل قد تعرضوا لنزع ممتلكاتهم وطردهم من المدينة كإجراء “رحيم” من جانب “داعش”، في تجسيد للورطة الوجودية التي واجهها كل المسيحيين العراقيين. ويبدو أن هناك القليل من الفضاء لاستيعاب المسيحيين وسط الادعاءات المتنافسة من جانب الأطراف الأقوى في العراق. وهذا ينطبق على منطقة سهل نينوى بشكل خاص، إلى الشرق من الموصل، حيث الكثرة المسيحية النحيلة. وسيكون القادة الأكراد الذين يدعون بأن هذه الأرض تقع في إطار حدودهم راغبين في الاعتراف بوضع مسيحي خاص في إطار نينوى، طالما أعلن سكانها عن ولائهم لأربيل وليس لبغداد. وفي الحقيقة، فإن أربيل وبغداد على حد سواء تتمتعان بموقف جيد من خلال الحلفاء المسيحيين ووكلائهم للدخول في منافسة منتظرة.
تشكل تطلعات الأقليات في نينوى عناصر مهمة في مقطورة الحرب بين بغداد وأربيل، والتي من المتوقع أن تشعل فتيل التوترات والتصعيد بينهما عندما تتكشف نتائج معركة الموصل. ومع ذلك، لا تبدو الوكالة التي تشكل مسار التطورات مقصورة على بغداد وأربيل والمجتمعات المحاصرة والمنهكة هناك. ويبقى سنة العراق أغلبية مميزة في المحافظة. وربما يكون الاضطراب الذي عصف بهم قد خفف من قدرة التعبير عن مصالحهم، لكن ثمن تجاهل هذه المصالح سيكون بمثابة نثر لبذور الصراعات المستقبلية الأكيدة حول نينوى. وسوف تكون هذه أخباراً سيئة لكل طرف معني تقريباً، لكنها ستلقى الترحيب بكل تأكيد لدى “داعش” الجريح.
حسن منينمة
الغد