ويجسّد وصول ترامب إلى البيت الأبيض ظاهرة، ويثير مخاوف وتوجسات، وسيكون له أثره الواسع على مناطق كثيرة من العالم، وخصوصاً منطقتنا العربية وملفاتها الساخنة، وعلى العلاقات الأميركية الروسية وسياسات واشنطن في العالم، حيث بنى ترامب ملامح سياساته على انتقاد سياسات هيلاري كلينتون ورفضها، بوصفها استمراراً لعهد الرئيس باراك أوباما الذي لم يسلم من انتقادات ترامب الكثيرة له، في مقابل الإشادة بمواقف الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، والإعجاب بها، غير أن أي رئيس أميركي لم يكن صاحب صلاحيات مطلقة، إذ على الرغم من أهمية دوره كفرد، إلا أن المؤسسات التقليدية الحاكمة، ومراكز رسم الاستراتيجيات والسياسات وصنعها، ستلتف عليه وتقيده بجملةٍ من الضوابط والمحدّدات، كونها تمثل قوىً مدنية وعسكرية واستخباراتية مؤثرة داخل الإدارة وخارجها.
وليس مبالغاً فيه القول إن فوز ترامب قد يغيّر المستقبل السياسي للولايات المتحدة وتوازناتها
الاجتماعية، نظراً لأنه جاء وسط انقساماتٍ اجتماعية مهمة، بنيت على نزعات عنصرية وطبقية، وأسهمت في إحداث تغيّراتٍ في الخريطة الانتخابية التقليدية. لكن السؤال في هذا المجال: كيف سيتعامل السيد ترامب وإدارته مع ملفات منطقتنا الملتهبة في كل من سورية والعراق وليبيا واليمن وسواها، حيث ستكون هذه الملفات من أهم القضايا والتحدّيات التي ستواجه الإدارة الأميركية الجديدة، مع أن من المبكّر التكهن بكيفية التعامل مع ملفات المنطقة، وعلينا الانتظار لأشهر، إلا أن هذه الكيفية ستكون، على الأغلب، مختلفة كلياً عن تعامل الإدارة الأميركية السابقة، على الرغم من الضبابية التي تميزت بها مواقف ترامب في حملته الانتخابية، وهي مواقف وصفت بالاعتباطية، إلى جانب بهلوانية الأداء، لكنها بنيت على كراهية الآخر والعنصرية حيال المسلمين والملوَنين الأفارقة والأميركيين اللاتينيين والآسيويين الذين هدّد بطرد عشرة ملايين مهاجر غير قانوني منهم، وحرمانهم من العيش في الولايات المتحدة.
وإذا كانت هذه الانتخابات الرئاسية الأميركية قد كشفت انقساماً كبيراً في المجتمع الأميركي، امتد إلى مختلف تفاصيل هذا المجتمع، ونسيجه الاجتماعي، وبدا في صورة خلافات وصراعات، إلا أن ذلك يشير إلى تغير شعبي عميق حدث في المجتمع الأميركي، وبشكل لم تتمكّن معه هيلاري كلينتون من أن تصبح الرئيسة التي يلتئم حولها الأميركيون، كونها افتقدت الجاذبية والشعبية، إضافة إلى أن قسماً كبيراً منهم لم يثق بها، واعتبرها صناعة المؤسسة الحاكمة، وخصوصاً الشركات الكبرى المدنية والعسكرية، وبالتالي، فإن أميركا المنقسمة على نفسها ستزداد عداءً في ما بينها، مع فوز دونالد ترامب، المرشح الجمهوري رغم أنف الجمهوريين.
غير أن ترامب يمثل ظاهرةً نامية جديدة، تمثل الرجل الأميركي الأبيض الذي بنى خطابه على كراهية الآخر، والاحتجاج على وضع الولايات المتحدة الراهن، ويمكن تسمية هذه الظاهرة الجديدة، الترامبية (نسبة إلى ترامب)، وهي ليست وحيدة في العالم، إنما تحاكي ظاهرة صعود النزعات اليمينية المتطرّفة في أوروبا، والتي تجسّد إيديولوجيتها أحزاب اليمين وتياراته في بلدان أوروبية عديدة، لكن الظاهرة الترامبية هي الأكثر وضوحاً وصفاقةً، مقارنة بالنموذج الذي ينمو وينتشر بسرعة في بلدان الاتحاد الأوروبي التي أضحت فيها أحزاب اليمين تنمو وتعتاش على خطاب العداء للآخر، وخصوصاً العربي الإسلامي، وراحت تراكم مكاسبها الانتخابية على حساب معاناته، ليبلغ هذا الخطاب ذروته في خطاب ترامب العدائي خلال حملته الانتخابية.
وإذا كانت الظاهرة الترامبية ستلقي بأثرها العميق على الديمقراطية التمثيلية الأميركية، إلا أن
هناك مخاوف وتوجسات من إرهاصاتها وتأثيراتها، على الرغم من أن دونالد ترامب لجأ في خطاب الفوز (أو الانتصار) إلى لهجةٍ تصالحية، ربما بناءً على نصائح مساعديه، لكي يخفي هوسه بعداء الآخر، وإلى القول إنه سيسعى إلى “تحقيق شراكاتٍ، وليس صراعات، مع دول العالم”، كي يخفف من المخاوف حيال مواقفه من المسائل الدولية، والتي بناها على مبدأ تصنيفٍ، يرجعها إلى ثنائية الأبيض والأسود، وما يستتبع ذلك من تفكيك ما هو قائم في النظام الدولي الراهن، وإعادة صياغتها وفق رؤيةٍ شعبويةٍ، بدءاً من العلاقة مع الأعضاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، والعلاقة مع الأمم المتحدة، بذريعة التخفف من الأعباء المالية، وصولاً إلى علاقاته مع دول الخليج العربي ودول أميركا اللاتينية وغيرها، ولعل إعجابه بشخصية الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، يرجع بالأساس إلى القاسم الشعبوي بينهما، الأمر الذي قد تكون له انعكاسات خطيرة من خلال إطلاق يد بوتين في الملف السوري، وزيادة التغول الروسي في الدم السوري. لكن في المقابل، لم يكن النهج الذي اتبعه باراك أوباما حيال الكارثة السورية في صالح الشعب السوري وثورته، وخصوصاً بعد أن ارتكب النظام مجزرة الكيماوي، حيث عملت إدارة أوباما على إدارة الصراع في سورية وعليها، بما يطيل أمده، مع العمل على إطالة أمد حكم الأسد وبقائه في السلطة، في تركيزها على أولوية محاربة الإرهاب، متمثلاً بإرهاب تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وجبهة فتح الشام (جبهة النصرة سابقاً)، غاضّة النظر على إرهاب النظام ومليشيات ملالي إيران وروسيا، إضافة إلى عدم سماحها لأي قوة إقليمية بتزويد مسلحي المعارضة السورية بأي سلاحٍ نوعي، وخصوصاً مضادات الطيران. والأدهى من ذلك أن إدارة أوباما حاولت تحويل وجهة صراع السوريين مع النظام، وإلحاقه في الحرب الدولية التي تخوضها ضد ما تسميه “الإرهاب”، الأمر الذي أفضى إلى تعاميها وعدم اكتراثها بالقتل والتدمير، وبطموحات ثورة السوريين في الخلاص من الظلم الاستبداد.
قد يكون من المبكّر استشراف النهج الذي سيتبعه دونالد ترامب حيال الصراع في سورية وسواها، لأن الأمر لا يتعلق بالمواقف خلال الحملة الانتخابية التي عادة ما تتغيّر، بعد وصول المرشح إلى منصب الرئاسة، بل يتعلق بالإدارة التي سيختار الرئيس الجديد أعضاءها في البيت الأبيض والبنتاغون والخارجية ومختلف الإدارات. ولكن، هناك توجس من أن ندخل مرحلة جديدة في الشكل، لكنها، من حيث المضمون، مشابهة سابقتها، خصوصاً أن ترامب وعد بأن تكون أولويته هي “التخلص من داعش”، قبل الحديث عن سورية، واعتبر مصير الأسد ثانوياً.