مشكلتنا المزمنة، ان الاقتصاد الاهلي (الوطني) لا يمثل اولويتنا، فالاهتمام يتركز بامرين: العملة الاجنبية (النفط)، ونفقات الخزينة (الموازنة). فتذهب ادراج الريح الامكانات والكثير من الجهود المخلصة لانتشال اقتصاد البلاد.. ونجدد العقل والسلوكيات السائدة، ونعيد انتاج ذات الادوات المستهلكة والمعرقلة للنهضة والتنمية.. وموازنة ٢٠١٧، كبقية الموازنات، أحد الادلة.
موازنة بلا اولويات. فهل هي موازنة تنموية لتنويع الاقتصاد وتقليل نسبة النفط؟ ام لانطلاق القطاع النفطي والصناعات الملازمة لتنشيط الاقتصاد؟ ام موازنة خدمات اجتماعية؟ ام لتعزيز القدرات الامنية؟ ام لمعالجة البطالة؟ فالموازنات الناجحة تمسك برأس او رؤوس الخيوط لتنجز كل المتطلبات وكامل النسيج. بخلافه سيبدو غياب الاولويات، تخبطاً في التشخيص، وغياباً لخارطة التنفيذ.
موازنة همها الاول سد النفقات التشغيلية واداريات الدولة وليس الاقتصاد الاهلي. فرواتب الموظفين والمتقاعدين امر مهم.. ولكن أليس مهماً ايضاً استحقاقات الفلاحين والعمال وشركات التمويل الذاتي والمقاولين ورجال الاعمال والمصالح الخاصة.. خصوصاً ان الاخيرين قد سلموا البلاد والدولة انتاجاً حقيقياً. فلماذا منح الاراضي والتقاعد والامتيازات للاولين وحرمان غيرهم منها؟ فالبلاد تعتمد على النفط بقطاعيها الخاص والعام.. والدولة تحتكر، وتعطي الاولوية لنفسها، وتشاكس وتتشدد وتعرقل غالباً بمنطق متخلف.. فمن للقطاع الاهلي؟
مجموع النفقات (١٠٠.٦ ترليون/دينار)، منها (٧٥.٢ ت/د) للنفقات الاستهلاكية، و(٢٥.٤ ت/د) للاستثمارية. اما الواردات، فالنفطية (٦٧.٩ ت/د) وغير النفطية (١١ترليون، عادة يجبى جزءاً منها فقط)، والعجز (٢١.٦ ت/د). يُلاحظ ان الاستهلاكية قريبة من الواردات النفطية وغير النفطية شبه المضمونة.. اما الاستثمارية فقريبة من العجز، وغالباً لن تتوفر اموالها، فتبقى معظمها رقماً ليس الا. والمخطط تمويل العجز (٢١.٦ ت/د) عن طريق المتبقي في حسابات الوزارات وسندات وحوالات الخزينة ومجموعها (٧.٧٨ت/د) وبالباقي قروض خارجية.
هم الموازنة الاساس توفير الموارد للخزينة (امر مبرر) وليس تحفيز الاقتصاد (غير مبرر).. وهذه امثلة كالمواد (٢٢) التي تلزم وزارة الكهرباء والاتصالات والاعمار والبلديات وامانة بغداد على جباية مستحقاتها، والا ستخصم من موازنتها.. و(٢٤) استحصال ضريبة الجوال والانترنيت ٢٠٪ ورسم على المسافرين للخارج (٢٥٠٠٠) دينار.. و(٢٥) التي تجيز للوزارات والمحافظات فرض رسوم واجور خدمات جديدة.. و(٣٤) لاستقطاع نسبة ٤.٨٪ من رواتب ومخصصات الموظفين والمتقاعدين.. و(٣٦) لاعفاء دوائر الدولة من رسوم السلع التي تستوردها (لماذا لم تشمل القطاعات الاهلية المنتجة ايضاً!).. و(٣٨) لرفع ضريبة العقار من ١٠ الى ١٢٪.. و(٣٩) التي تجيز اجازة الموظف ٥ سنوات بالراتب الاسمي.. ولما زاد بدون راتب.
تسعى بعض المواد لتشجيع الاستثمار.. كالمواد (١٥) التي تسمح للمؤسسات الرسمية بالاستثمار ومشاركة القطاع الخاص واستثناءها من القوانين النافذة.. و(٢٨) الزامها الوزارات شراء منتجات الوزارات الاخرى بشروط (لماذا يستثنى الانتاج الوطني خارج الوزارات!!).. و(٣٧) لاعفاء شركات القطاع العام والخاص من الغرامات التأخيرية.. لعدم صرف مستحقاتها.. و(٤١) السماح “للموارد المائية” بيع واستثمار ناتج كري الانهر (٥٠٪ منها للخزينة).. و(٤٦) السماح “للمالية” بيع حصتها من الاراضي الزراعية لاصحاب الحقوق ببدل شرط الانتاج الزراعي (لماذا لا يشمل كل المواطنين وغيرهم لاغراض السكن والاستثمار؟ ولماذا لا يكون البدل رمزياً او بدونه؟ فهل اشترت الدولة هذه الاراضي لتبيعها للمواطنين؟).
لاشك ان الحكومة قاومت الازمة المالية، ولم تعلن الافلاس، كما ردد البعض.. واستمرت بدفع الرواتب، وحققت انتصارات امنية.. وهذا ايجابي. لكن ايكفي هذا؟ واسعار النفط كما هي.. والاقتصاد يزداد تدهوراً.. والزيادة السكانية مليون نسمة سنوياً (٦ مليار دولار اضافي سنوياً تقريباً بمعدلات الاستهلاك الحالية).. فهل نقف عند تخفيض النفقات؟ والاستقطاعات والجبايات والقروض؟ واستمرار احتكار الدولة، والعوائق والسياسات المرتبكة والمتناقضة لتحفيز القطاع الاهلي؟ فكيف سنسدد متطلبات الحرب والديون والاعمار والتنمية؟ فنحن –كشعب، وقوى سياسية ومسؤولين، ونخب، وسلطتين تشريعية وتنفيذية- لا نقوم بواجباتنا لاقرار المناهج الصحيحة والاتحاد حولها ، ولاعداد موازنات ناجحة لها اولويات واهداف، وهمها الاول تنشيط الاقتصاد. لذلك سيُصوت للموازنة بمنطق لا يوجد بديل افضل، لاننا نستهلك الكلام والوقت والفرص والامكانيات في التوجهات الخاطئة.
عادل عبد المهدي