انخفضت أسعار النفط العالمية إلى أكثر من النصف بين يوليو ٢٠١٤ (112 دولارًا للبرميل) وأكتوبر 2016 لتبلغ حوالي ٥٠ دولارًا للبرميل. وأيًّا كان تفسير هذا التراجع الكبير في هذه الأسعار، سواء كان لعوامل العرض والطلب، أم بسبب صراع المنتجين للحفاظ على حصصهم السوقية، أم نظرية المؤامرة، فسوف تظل هذه الأسعار، على الأرجح، متذبذبة وغير مستقرة في المستقبل المنظور، حيث تشير دراسة نشرها صندوق النقد الدولي في أكتوبر ٢٠١٥ إلى أنه من المتوقع ألا تصل أسعار النفط عالميًّا إلى مستويات ٢٠١٤ في المدى المتوسط، كما أنه ليس من المنتظر أيضًا أن يتجاوز متوسط هذه الأسعار مستوى ٦٣ دولارًا حتى عام ٢٠٢٠.
وفي ظل هذه التوقعات، ستكون لهذه المستويات من الأسعار المنخفضة آثار متفاوتة من المكاسب والخسائر بالنسبة لاقتصاديات الدول غير النفطية في الشرق الأوسط، مثل مصر والأردن والمغرب وغيرها. فعلاقة هذه الدول بتراجع أسعار النفط عالميًّا هي علاقة معقدة نسبيًّا، وليس من السهل التسليم بأن هذه الدول سوف تستفيد بشكل صافٍ من هذا التراجع على طول الخط، حيث يوجد عدد من الانعكاسات السلبية التي ينبغي وضعها في الاعتبار لتقييم مدى استفادة هذه الدول من الهبوط الكبير في أسعار النفط عالميًّا، خاصة وأن اقتصاديات هذه الدول لها تشابكات عديدة (في مجالات التجارة، والاستثمار المباشر وغير المباشر، والعمالة، والسياحة، والمساعدات المالية والنفطية) مع اقتصاديات الدول النفطية التي سوف تتأثر سلبًا من هذا الهبوط.
الانعكاسات السلبية والإيجابية:
يُشير العديد من الخبراء إلى أن أبرز الآثار الإيجابية لتراجع أسعار النفط عالميًّا على اقتصاديات الدول غير النفطية في الشرق الأوسط تتمثل في تحسن موازناتها المالية العامة، ومعاملاتها الجارية “نسبيًّا”؛ نتيجة تقليل تكلفة دعم منتجات الطاقة، وخفض فاتورة الواردات الطاقوية من الخارج؛ وبالتالي تحسن معدلات التضخم والنمو والفقر، فضلا عن تخفيف الضغط على سعر الصرف وزيادة احتياطيات النقد الأجنبي.
بيد أن أهم الآثار السلبية المحتملة على اقتصاديات الدول غير النفطية في الشرق الأوسط، إذا ما استمرت أسعار النفط في الانخفاض لفترة طويلة، يقدرها الخبراء بين ثلاث وخمس سنوات، والتي تتمثل في: تراجع الاستثمارات، والسياحة، وتحويلات المغتربين في الدول المنتجة للنفط، وانخفاض المساعدات والقروض المقدمة من الدول النفطية للدول غير النفطية.
مصر الأكثر تأثرًا:
كانت الآثار، سواء السلبية أو الإيجابية، ملحوظة بدرجة كبيرة في مصر التي تعد من أكبر اقتصاديات الدول غير النفطية في الشرق الأوسط. فمن جهة، استفادت الحكومة المصرية من تراجع أسعار النفط العالمية، حيث قللت من الميزانية الموجهة إلى دعم المنتجات النفطية خلال العام المالي 2015 – 2016 بنسبة 28 في المائة عن العام المالي الأسبق لتصل إلى 51 مليار جنيه فقط. كما قدرت وزارة المالية دعم المنتجات النفطية في العام المالي الحالي 2016 – 2017 بحوالي 35 مليار جنيه، أي بخفض نسبته 45 في المائة تقريبًا مقارنة بالعام الماضي.
وفي مقابل هذه الآثار الإيجابية على الاقتصاد المصري من جراء تراجع أسعار النفط عالميًّا، كانت هناك العديد من الآثار السلبية. فمن جهة، تراجعت قدرة الاقتصاد المصري على توفير العملة الصعبة، إذ لا تزال صادرات النفط الخام تمثل نحو ٤٠ في المائة من إجمالي الصادرات المصرية. ومن جهة ثانية، كشف تقرير لمؤسسة سيلنتل المتخصصة في تحليلات الملاحة البحرية، أن انخفاض أسعار النفط سيسمح لسفن الشحن بتجنب رسوم العبور لقناة السويس، وذلك باتخاذ الطريق الأطول حول إفريقيا بدلا من القناة.
وخلص التقرير إلى أن انخفاض أسعار الوقود يعني أن السفن يمكنها تحمل تكلفة اتخاذ الطريق الأطول، مشيرًا إلى أن استخدام طريق جنوب إفريقيا سيوفر 235 ألف دولار لكل رحلة بحرية. وأضاف أنه إذا رغبت مصر في تغيير اقتصاد اختيارات المسارات، فإن قناة السويس تحتاج إلى خفض رسوم العبور بنسبة 50 في المائة تقريبًا، رغم أن الحكومة المصرية أنفقت مؤخرًا نحو 8 مليارات دولار من أجل توسيعها.
ومن جهة ثالثة، يتخوف عدد من المراقبين من التداعيات السلبية لانخفاض أسعار النفط عالميًّا على اقتصاديات الدول الخليجية النفطية الرئيسية، وخاصة المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ودولة الكويت، وهي الدول الأكثر أهمية في مساعدة مصر اقتصاديًّا منذ ثورة 30 يونيو 2013. حيث يشير هؤلاء إلى أن موازنات هذه الدول قد تتعرض لهزة عنيفة في المدى المتوسط والطويل نتيجة تراجع إيراداتها من تصدير النفط للخارج، ما سيجعلها أقل قدرة على الاستمرار في تقديم الدعم الاقتصادي لمصر في المستقبل، وقد يكون قرار شركة أرامكو السعودية في بداية شهر أكتوبر الماضي إلى يومنا هذا بالتوقف عن إمداد مصر بالمنتجات النفطية مؤشرًا دالًّا على ذلك.
وبالإضافة إلى ذلك، يرى بعض الخبراء أيضًا زيادة إمكانية تراجع الاستثمارات المباشرة وغير المباشرة القادمة إلى مصر من الدول العربية النفطية، وخصوصًا من السعودية، في المدى المتوسط. وكانت الرياض قد أبلغت القاهرة مؤخرًا بأن بعض الاستثمارات الحكومية السعودية سوف تُلغى ضمن خطة ترشيد النفقات المالية التي وضعتها المملكة مؤخرًا لتقليص عجز الموازنة لديها. كما أجّلت السعودية تنفيذ مشاريع أخرى في مصر، ومنها مشروعات استثمارية عملاقة على سواحل البحر الأحمر.
وفيما يخص تحويلات المصريين العاملين بالدول العربية النفطية، من المتوقع، وفقًا لعدد من المراقبين أن تضطر هذه الدول مع تراجع أسعار النفط عالميًّا إلى اتخاذ إجراءات تقشفية قد تؤثر سلبًا على أوضاع العمالة المصرية بها، وبالتبعية سيوثر ذلك على حجم تحويلاتهم إلى مصر، والتي تمثل ثاني أهم موارد النقد الأجنبي بعد الصادرات، وهذا التأثير السلبي سيمتد، بالضرورة، لعائد الخدمات المصرفية بالبنوك المصرية وكذلك لمنتجات التجزئة المصرفية، خاصة قروض شراء الشقق والمحلات والسيارات.
ويضيف المراقبون أن قرار السلطات السعودية بفرض رسوم جديدة على العمالة الأجنبية، ومنها المصرية، ستكون له تبعات عدة مرتبطة بعجز قطاع عريض من العمالة المصرية، التي تبلغ حوالي مليون شخص، عن تسديد الرسوم الجديدة، خاصة أصحاب المهن الحرفية، مشيرين إلى أن القاهرة أبلغت الرياض بأن الرسوم الجديدة قد تكون سببًا في ازدياد محاولات الوصول غير الشرعية إلى الأراضي السعودية أو تجاوز مدة الإقامة للمقيمين بالفعل.
آثار متفاوتة على الاقتصاد الأردني:
وكما هو الحال في مصر، شهد الاقتصاد الأردني آثارًا متفاوتة جراء تراجع أسعار النفط عالميًّا خلال الفترة الماضية. فمن جهة، زاد الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 1 في المائة، كما انخفض عجز الموازنة بنسبة 24 في المائة في العام المالي 2015 نتيجة تقلص فاتورة الطاقة. وأعلنت الحكومة الأردنية أن قيمة وارداتها من النفط ومشتقاته انخفضت 31,2 في المائة في الأشهر الثمانية الأولى من العام الحالي إلى 1,65 مليون دولار، مقارنة بالفترة ذاتها من العام السابق. وكشف عدد من المسئولين أن كل تراجع بمقدار دولار للنفط عن مستوى 100 دولار، يعني أن الموازنة العامة الأردنية سوف توفر ما مقداره 24 مليون دولار، كانت ستدفعها لاستيراد النفط وتخصيصه للدعم.
ويبدو أن الاستفادات الاقتصادية الناتجة عن تراجع الأسعار انعكست بالنفع على المواطنين، ففي بداية عام 2015، قلصت السلطات الأردنية أجور النقل العام بنسبة 10 في المائة على كافة وسائل نقل الركاب العاملة بالبنزين والديزل. ومن ناحية ثانية، من المتوقع أن ينعكس انخفاض أسعار النفط عالميًّا على إنتاجية عدد من القطاعات الصناعية الرئيسية في الأردن، وهي تلك القطاعات التي تعتمد في إنتاجها على المشتقات النفطية وتشكل حوالي 40 في المائة من كلفة الإنتاج، مثل الفوسفات والبوتاس والأسمدة والأسمنت، حيث من المرجح أن تزيد هذه الصناعات من إنتاجها وتصديرها، ما سينعكس على الإنتاجية، وخلق فرص عمل جديدة، إضافة إلى زيادة قدرة الدولة على جذب عملات صعبة تدعم احتياطياتها الأجنبية في البنك المركزي. كما أن انخفاض أسعار النفط عالميًّا سيساهم في إنقاذ شركات وطنية كبرى، مثل الملكية للطيران وشركات الحديد، بعد أن تسبب ارتفاع كلفة شراء الوقود لديهما بإلحاق خسائر فادحة أثرت على أنشطتهما.
أما من ناحية الآثار السلبية لانخفاض أسعار النفط عالميًّا على الاقتصاد الأردني، فقد يؤدي هذا الانخفاض إلى تباطؤ تنفيذ خطط الحكومة الأردنية في مجال الاستثمار في مشروعات الطاقة المتجددة التي عادة ما تنتعش في ظل أسعار النفط العالية. كما أشارت بعض التوقعات إلى إمكانية تراجع وتيرة المساعدات الخليجية مستقبلا بسبب أوضاع دول الخليج الاقتصادية وخصوصًا السعودية.
ويشار هنا إلى أن الأردن كانت قد حصلت مع نهاية العام الماضي على 2,469 مليار دينار من المنحة الخليجية المخصصة للأردن خلال الأعوام (2012 – 2015) من ثلاث دول هي السعودية والكويت والإمارات. وأظهرت أرقام الحكومة أن هذا المبلغ يشكل 93 في المائة فقط من إجمالي قيمة المنحة الخليجية البالغة 2,658 مليار دينار والتي تعهدت ثلاث دول خليجية بتقديمها للمملكة عام 2011.
ومن ناحية أخرى، يبدو أن انخفاض أسعار النفط عالميًّا ساهم في هبوط إجمالي تحويلات الأردنيين العاملين في الخارج بنسبة 2,8 في المائة خلال الأشهر الثمانية الأولى من العام الحالي مقارنة بالفترة ذاتها من العام الماضي، لتبلغ حوالي 2,5 مليار دولار.
وقد فسر المراقبون هذا التراجع في التحويلات بعدة أسباب، من أهمها انخفاض أسعار النفط الذي أثر على دول الخليج العربي، والذي انعكس على العاملين لديها، واضطر بعضها للاستغناء عن عدد من العمال الأردنيين الوافدين إليها. ويقدر عدد الأردنيين العاملين في الخارج بأكثر من 500 ألف مواطن، معظمهم في السعودية والإمارات والكويت، بحسب تقارير رسمية.
تأثيرات على الاقتصاد المغربي:
الآثار المتفاوتة لانخفاض أسعار النفط عالميًّا امتدت من مصر والأردن إلى المغرب أيضًا. فمن الناحية الإيجابية، ساهم هذا الانخفاض في التخفيف من عجز الميزان التجاري المغربي عبر تقليص فاتورة الاستيراد؛ حيث تراجعت واردات المغرب من الطاقة في عام 2016 حتى نهاية شهر أغسطس بنحو 25,5 في المائة، أي حوالي 1,15 مليار دولار، كي تصل إلى 3,5 مليارات دولار، مقابل 4,6 مليارات دولار في الفترة ذاتها من العام الماضي.
وقد شجع تراجع أسعار النفط عالميًّا الحكومة المغربية على اتخاذ قرار سياسي تجنبته على مدى سنوات، ويتمثل في رفع الدعم عن البنزين والسولار، والذي انخفض من حوالي 5,7 مليارات دولار قبل خمسة أعوام إلى 1,6 مليار دولار حاليًّا. وكان ذلك من العوامل التي ساهمت في خفض عجز الموازنة إلى حدود 3,5 في المائة في العام الجاري، بعدما كان في حدود 7,2 في المائة قبل خمسة أعوام. وأوضح رئيس الحكومة، عبد الإله بنكيران، أن كل دولار يضاف إلى سعر البرميل، يكلف ميزانية الدولة في المغرب حوالي 60 مليون درهم (6 ملايين دولار) سنويًّا.
ومن الناحية السلبية، فقد تأخر حصول المغرب على هبات التزمت بها قطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والكويت قبل خمس سنوات، في سياق الربيع العربي، والتي تصل قيمتها إلى 5 مليارات دولار، موزعة بالتساوي بين الدول الأربع، في الفترة بين 2012 و2016.
وكان من المفترض أن يحصل المغرب على كامل هذه الهبات بنهاية العام الجاري، إلا أن قيمة الهبات التي حصلت عليها المملكة المغربية بالفعل من دول الخليج حتى نهاية مايو الماضي، لم تتجاوز 2,79 مليار دولار، وفق تقرير صادر عن وزارة الاقتصاد والمالية. وجاءت تلك الهبات بواقع 920 مليون دولار من الصندوق الكويتي للتنمية، و850 مليون دولار من صندوق قطر للتنمية، و540 مليون دولار من الصندوق السعودي للتنمية، و481 مليون دولار من صندوق أبوظبي للتنمية.
وخلاصة القول، إن تراجع أسعار النفط عالميًّا كان لها كثير من الآثار الإيجابية والسلبية، والتي اختلفت من دولة عربية إلى أخرى باختلاف طبيعة اقتصادها، ودرجة اعتماد هذا الاقتصاد على الهبات من الدول الخليجية المنتجة للنفط. ويوضح الجدول التالي مجمل تأثيرات انحفاض أسعار النفط سلبيًّا وإيجابيًّا على اقتصاديات الدول العربية غير المنتجة للنفط.