“فلنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى” كان الشعار الانتخابي لحملة دونالد ترامب، لكن التأثير المباشر لانتصاره تمثل في جعل الولايات المتحدة أقل قوة في العالم، لسببين: سوف يلحق الضرر بمكانة وتأثير أميركا من خلال انتشار اعتقاد عام على الصعيد الدولي بأن الولايات المتحدة انتخبت لتوها مهرجاً خطيراً كزعيم لها. وعلى الرغم من أن الإحساس غامر، فإنه غير متجذر عميقاًً ومن المرجح أن يكون مؤقتاً، وينبع كما هو حاله من صرخات ترامب الديماغوجية خلال الحملة الانتخابية. وكانت تلك التصريحات الخاصة بالعلاقات مع البلدان الأجنبية تتسم بالغموض بشكل خاص، والأقل احتمالاً لأن توفر دليلاً على أي سياسة مستقبلية.
لكن الأكثر ضرراً على المدى البعيد بالنسبة لمكانة أميركا كقوة عظمى، هو ما تبدو عليه الولايات المتحدة راهناً كمجتمع منقسم على نحو أكثر عمقاً من أي وقت مضى. فقد كسب ترامب الانتخابات من خلال تشويه صورة وتهديد الأفراد والمجتمعات -المكسيكيين والمسلمين واللاتينيين- ولن يختفي أسلوب سياسته القائم على المواجهة. فالعنف الشفوي ينتج دائماً مناخاً سياسياً ساخناً جداً، والذي يصبح معه العنف الجسدي خياراً. وفي الوقت نفسه، ركزت حملة الانتخابات بشكل حصري تقريباً على السياسة الأميركية المحلية حصرياً؛ حيث لم يظهر الناخبون سوى نزر يسير من الاهتمام بالتطورات في الخارج. ومن غير المرجح أن يتغير هذا الواقع.
تستطيع الحكومات حول العالم أن ترى هذا كله بنفسها، ولو أن هذا لن يوقفها عن مضايقة دبلوماسييها في واشنطن ونيويورك بلا توقف، من أجل الحصول منهم على تلميح عن البعد الذي ذهبت إليه ملاحظات ترامب غير المقيدة في كونها أكثر من محاولات شائنة تهدف إلى الهيمنة على أجندة الأخبار لبضع ساعات. ولحسن الطالع، كانت تصريحاته غامضة جداً إلى درجة أنه سيكون من السهل التنصل منها بين الوقت الحالي وبين موعد تنصيبه. وسوف تظهر مواقف السياسة الخارجية الحقيقية فقط مع تشكيل مجلس وزراء ترامب حين يصبح واضحاً من هم الذين سيكونون في موقع المسؤولية.
ولكن إذا بقيت السياسات المستقبلية غير معروفة، فإن من المرجح أن تكون القومية الأميركية المشحونة بقوة، سوية مع الشعبوية الاقتصادية والانعزالية، هي التي تحدد المزاج العام. وكان ترامب قد وصف الأميركيين بشكل ثابت بأنهم ضحايا للمكائد الكريهة التي تحاك في البلدان الأجنبية، والتي لم تواجه في السابق أي مقاومة فعلية من جانب نخبة أميركية غير كفؤة وخادمة للذات.
وليس هذا النوع من القومية العدوانية فريداً ومقتصراً على ترامب. ففي كل أنحاء العالم، تشهد القومية إعادة انبعاث مشهودة في بلدان عدة، من تركيا إلى الفلبين. وقد أصبحت وسيلة ناجحة للاحتجاج في بريطانيا وفرنسا وألمانيا والنمسا وأوروبا الشرقية. وعلى الرغم من تصوير ترامب بين الفينة والأخرى على أنه ظاهرة أميركية مميزة، فإن لقوميته الشعبوية كمية صادمة من القواسم المشتركة مع ما لدى أنصار حملة “بريكست” في بريطانيا -أو حتى مع شوفينية الرئيس رجب طيب أردوغان في تركيا. ومن الممكن التغافل عن كثير من هذا واعتباره خطابة قومية منمقة، لكن هناك تياراً تحتياً مهدِّداً من العنصرية وشيطنة الآخر، سواء كان موجهاً ضد المهاجرين غير الشرعيين في الولايات المتحدة أو الساعين إلى اللجوء في بريطانيا، أو الأكراد في جنوب شرق تركيا.
في واقع الأمر، لم يقدم ترامب سوى قدر قليل جداً من الاقتراحات لإحداث تغيير راديكالي في السياسة الخارجية الأميركية خلال الحملة الانتخابية، باستثناء قوله إنه سوف يلغي الاتفاقية مع إيران حول برنامجها النووي -على الرغم من أن موظفيه أصبحوا الآن أقل حسماً حول هذا الموضوع؛ حيث يقولون فقط أن الصفقة يجب أن تنفذ بشكل مناسب. ولا أحد يعرف في الحقيقة ما إذا كان ترامب سيتعامل بشكل مختلف عن أوباما مع كتل البلدان الممتدة من باكستان إلى نيجيريا، حيث هناك سبعة حروب تستعر على الأقل -في أفغانستان، والعراق، وسورية، واليمن، وليبيا، والصومال، وجنوب السودان- بالإضافة إلى أربع حركات تمرد خطيرة.
لعل أكثر الحروب التي تنخرط فيها الولايات المتحدة عسكرياً خطورة، هي الحرب التي تدور رحاها في العراق وسورية، وهنا تقترح تعليقات ترامب خلال الحملة الانتخابية أنه سوف يركز على تدمير “داعش”، وإدراك الخطر الكامن في التورط المفرط عسكرياً والتطلع إلى نوع من التعاون مع روسيا، باعتبارها اللاعب الأكبر التالي في الصراع. وهذا شيء مشابه لما يحدث أصلاً.
كانت نوايا هيلاري كلينتون في سورية، ولو أنها لم تجد طريقها إلى التعبير عنها أبداً، تبدو دائماً أكثر ميلاً إلى التدخلية من نوايا ترامب. وكان أحد مستشاريها الرفيعين قد اقترح صراحة منح أولوية أقل للهجوم على “داعش” ومنح المزيد من الأولوية للتخلص من الرئيس السوري بشار الأسد. ولهذه الغاية، كان من المقرر تشكيل قوة ثالثة من المتشددين المعتدلين المؤيدين للولايات المتحدة للقتال وإلحاق الهزيمة في نهاية المطاف بـ”داعش” والأسد على حد سواء. وربما لم يكن هذا التصور الخيالي ليتحقق، لكن حقيقة التفكير فيه يشير إلى المدى الذي كانت فيه كلينتون مستعدة للخضوع لمؤسسة السياسة الخارجية في واشنطن.
لقد طور الرئيس أوباما إحساساً أكثر ذكاء بكثير بما تستطيع ولا تستطيع الولايات المتحدة فعله في الشرق الأوسط وما وراءه، من دون التسبب في أزمات تتجاوز قوتها السياسية والعسكرية. وقد تكون قوتها قد أصبحت أقل مما كانت عليه قبل التدخلين الأميركيين الفاشلين في العراق وأفغانستان في أعقاب 11/9، لكنها ما تزال أكبر بكثير من قوة أي بلد آخر. وفي الوقت الحالي، فإنها الولايات المتحدة هي التي تنسق بنجاح الهجوم المضاد ضد آخر معقلين لتنظيم “داعش” في الموصل والرقة، والذي تشنه أطراف متعددة عنيدة في العراق وسورية. ولم يكن من الواضح أبداً مدى الجدية التي كان يجب على المرء أن يأخذ بها اقتراحات كلينتون إقامة “مناطق آمنة” ومحاولة قتال “داعش” والأسد في الوقت نفسه. لكن أحكامها على التطورات في الشرق الأوسط منذ غزو العراق في العام 2003 انطوت على فكرة معيبة حول ما يمكن تحقيقه.
تبدو غرائز ترامب عموماً أقل إطلاعاً، لكنها غالباً ما تكون ذكية، ولا علاقة لأولوياته بالشرق الأوسط. وكان قادة الولايات المتحدة السابقون قد شعروا بالشيء نفسه، لكن المطاف انتهى بهم في العادة إلى الانجرار إلى أزماته بطريقة أو أخرى، ثم تصبح الطريقة التي يؤدون بها هناك اختباراً لجودتهم ونوعيتهم الحقيقية كقادة. وكانت تلك المنطقة بمثابة المقبرة السياسية لثلاثة من آخر خمسة رؤساء أميركيين: تدمَّر جيمي كارتر بسبب تداعيات الثورة الإيرانية؛ ورونالد ريغان ضعف بشكل كبير بسبب فضيحة إيران-كونترا؛ وسوف تُذكر أعوام جورج دبليو بوش في الرئاسة بشكل رئيسي بالكوارث التي جلبها غزوه للعراق. وكان باراك أوباما أوفر حظاً وأكثر عقلانية، لكنه استخف بصعود “داعش” حتى تمكنت المجموعة من الاستيلاء على الموصل في العام 2014.
باتريك كوبيرن
صحيفة الغد