الآن وقد انتهت الانتخابات الأميركية، بُبعديها الرئاسي والتشريعي، وعرف القاصي والداني هوية رئيس الولايات المتحدة لأربع سنوات تبدأ من تاريخ انتقال دونالد ترامب رسمياً إلى البيت الأبيض في 20 كانون الثاني (يناير) 2017، كما علم الجميع بسيطرة الحزب الجمهوري على مجلسي الكونغرس، على الأقل لعامين قادمين، علينا أن نبحث في مرحلة ما بعد تلك الانتخابات المهمة، من حيث تداعيات نتائجها وانعكاساتها، ليس فقط على أميركا، بل على العالم بأسره. وهو الأمر الذي يرجع أساساً إلى مكانة واشنطن وموقعها على خريطة النظام الدولي، ما يدفعنا إلى التركيز على النظر إلى التداعيات الخارجية لنتائج تلك الانتخابات، إذ يكاد أن يكون هناك إجماع على أنه إذا كانت أميركا ستختلف في عهد ترامب عما كانت عليه قبله، فبالمقدار نفسه يوجد شبه إجماع على أن العالم في العهد نفسه سيختلف عما كان قبله، بسبب الدور الرئيس الذي تلعبه الولايات المتحدة على مسرح الأحداث العالمية. وأول ما يخطر على البال في هذا الصدد هو دلالات ذلك الحدث وتأثيراته على قوة اليمين على الصعيد العالمي، وعلى صعيد المعسكر الغربي خصوصاً. فقد ولَّدت نتائج الانتخابات الأميركية، بخاصة في مكونها الرئاسي، حالة جادة من الترقب لدى البعض، ومن التطلع لدى البعض الآخر، ومن القلق لدى البعض الثالث، في ما يخص إفرازاتها على نتائج أي انتخابات قادمة في الكثير من بقاع المعمورة، وخصوصاً في بلدان المعسكر الغربي، وفي القلب منها الدول الأوروبية. وإذا جال المرء بالنظر، يجد أن أشكالاً متعددة ومتنوعة من اليمين تحكم في العديد من الدول الأوروبية الرئيسة، مثل ألمانيا والمملكة المتحدة، واللتين تشكلان مع فرنسا الأركان الرئيسة الثلاثة لما يسمى أوروبا القديمة، وكذلك الأمر بالنسبة الى حالة ضلع مهم آخر في التحالف الغربي وهي اليابان. ولكن الأمر يمتد إلى قارات العالم الأخرى، حيث في آسيا يحكم اليمين مثلاً في الهند وباكستان، وفي أميركا اللاتينية عاد اليمين بالفعل في الآونة الأخيرة إلى مقاعد الحكم في بلدان رئيسة مثل البرازيل والأرجنتين، بينما تزداد ضغوط اليمين في فنزويلا لإسقاط الرئيس اليساري. إلا أن التخوف الأكثر تحديداً هو من وصول اليمين المتشدد إلى السيطرة على السلطة في بلدان العالم الأخرى، خصوصاً في بلدان المعسكر الغربي، بكل ما يحمله ذلك من أخطار ليس فقط على البلدان التي يصل فيها هذا اليمين إلى الحكم، بل على المحيط الجغرافي لتلك الدول، ومن ثم على المجتمع الدولي بأكمله. وتقدّم اليمين على الصعيد الدولي يشمل أنواع اليمين المتنوعة، ويبرز من بينها اليمين القومي واليمين الديني خصوصاً، والأخير هو الأعلى صوتاً ضمن صفوف معسكر اليمين في عالمنا العربي والإسلامي، وهو الذي يتبدى من خلال تعاظم نفوذ وتأثير تيارات وقوى تتبنى تفسيرات يمينية للعقيدة والتراث الدينيين. وفوز اليمين المتشدد يرتبط تقليدياً في العقل الجمعي، إنسانياً وأوروبياً، بالكثير من الذكريات المريرة التي تستدعي إلى الأذهان مآسي وكوارث الحرب العالمية الثانية، التي يُتهم ذلك اليمين المتشدد أصلاً بالتسبب في إشعالها وفق الأدبيات التاريخية السائدة، ليس فقط أوروبياً أو غربياً، ولكن أيضاً عالمياً.
أما الملاحظة الثانية التي نطرحها في هذا السياق، فتتعلق برؤية الولايات المتحدة خلال السنوات الأربع المقبلة للعالم من حولها. فمن حيث المبدأ، فإن التوقع العام هو أنه سيغلب على مواقف واشنطن تجاه البلدان الأخرى الطابع «الوظيفي» للعلاقات معها، أي بقدر ما ستخدم به هذه العلاقات المصالح الأميركية العليا كما تراها الإدارة الجمهورية الجديدة، سواء استراتيجياً أو أمنياً أو سياسياً أو اقتصادياً. وهذا يبدو أمراً طبيعياً في ضوء خلفية الرئيس الجديد وكونه رجل أعمال، وعادة ما يغلب على تفكير رجال الأعمال الطابع البراغماتي ومنح الأولوية للمصالح العملية والاستفادة الفعلية والمكاسب الملموسة. فلا مجال هنا للحديث عن العقائد أو الأيديولوجيات أو الأفكار، بل فقط توصيف الواقع بمنتهى البراغماتية وتغليب المصالح والمنفعة بمعناهما الأولي ووفق الفهم الإنساني البسيط لهما. ووفق الإطار الذي سبق عرضه، على الأرجح أن تضع السياسة الخارجية الأميركية أمام عينيها عدداً من المهمات في ضوء نسق مستجد في بعض جوانبه ومتكرر في جوانب أخرى من التقديرات والتقييمات للواقع العالمي القائم، ثم الانتقال إلى مرحلة اختيار الدول أو التحالفات الإقليمية أو دون الإقليمية القادرة على التعاون مع واشنطن بغرض تلبية هذه المهمات أو على الأقل تسهيل تنفيذها وتحجيم العوائق التي من شأنها أن تشكل عقبات في طريقها واحتواء السياسات المناوئة لها والتي تتعارض مع استراتيجياتها لتحقيق أهدافها والنجاح في أداء مهماتها. وسيعني ذلك استمرار بعض السياسات المطبقة حالياً أو بعض السياسات التي طبقت في الماضي نظراً الى أنه في نهاية المطاف، فإن هناك ما تُجمع النخبة ومؤسسات الحكم في الولايات المتحدة على اعتباره مصالح ثابتة على المدى الطويل، وكذلك فهناك دول قد لا تتغير العلاقات الأميركية معها كثيراً، نظراً الى أن طبيعة هذه العلاقات تجعلها بحكم ظروف نشأتها ومرحلتها التكوينية، تخدم المصالح الأميركية وتساهم في تنفيذ المهمات الأساسية للسياسة الخارجية الأميركية.
وثالث الملاحظات هو أنه وإن كان الوقت قد يبدو مبكراً لإصدار أحكام في شأن المواقف التي ستتبناها الإدارة الجديدة إزاء قضايا الشرق الأوسط ومجمل القضايا التي تهم العرب والمسلمين، فإن هناك إرهاصات يمكن استنباط دلالاتها من بين السطور وتصور ترجمتها إلى أفعال وسياسات في المستقبل القريب. ومن ذلك عدم تصور حدوث تغيير في العلاقات الأميركية مع إسرائيل، إلا إلى التحسن، وعدم توقع حدوث أي درجة من درجات الحلحلة والتحريك للقضية الفلسطينية، إلا إذا حدث من داخل أتون الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي من التحولات ما قد يدفع الإدارة الأميركية إلى التعامل مع هذا الصراع من منطلقات جديدة، ومن ثم الدفع بمبادرات أو تبني أدوار أكثر فعالية بغرض احتواء وتحجيم أي خطر يحدق بالمصالح الأميركية. كذلك، فمن الوارد أن يطرأ تشدد على المواقف الأميركية تجاه إيران، ليس فقط في ضوء ما أعلنه الرئيس المنتخب خلال حملته الانتخابية من مواقف إزاء الاتفاق النووي مع الدول الست، ولكن أيضاً في ضوء تصريحات الناطق باسم الخارجية الأميركية يوم إعلان فوز ترامب بمقعد الرئاسة، والتي ورد فيها أن الاتفاق النووي مع إيران غير ملزم. إلا أن هذا التشدد قد لا يؤدي بالضرورة إلى إدخال تغييرات على ذلك الاتفاق في ضوء أنه لم يكن ثنائياً بين طهران وواشنطن، ولكنه كان بين إيران ومجموعة الدول الست، والتي وإن ضمت دولاً حليفة لواشنطن فإنها ضمت أيضاً الاتحاد الروسي والصين الشعبية. وبالتالي، فإنه إن لم تنجح واشنطن في إقناع بقية حلفائها ودول أخرى بتبني موقف تعديل الاتفاق أو إلغائه، فلن يكون أمامها سوى الاختيار بين البقاء فيه والتأكد من تنفيذ طهران لبنوده، أو الخروج منه من جانب واحد.
وتبقى مسألة جدليات العلاقة الأميركية عموماً مع العالمين العربي والإسلامي في الخارج والأقليات العربية والمسلمة في الداخل الأميركي، وهو مجال تزداد فيه التكهنات وتكثر المخاوف، خصوصاً في ضوء توقع تبني سياسات مقيدة للهجرة ولأوضاع المهاجرين الموجودين داخل الولايات المتحدة في شكل غير شرعي، وهو ما يشمل مهاجرين قادمين من بلدان عربية وإسلامية. إلا أن هذه السياسات تبدو من جانب آخر أنها موجهة للأجانب عموماً وليس إلى العرب والمسلمين بخاصة. كما تبدو من جانب ثالث أن بعضها يأتي في إطار إنفاذ القانون، فضلاً عن أنها ارتبطت من جانب رابع بتصريحات لفريق عمل الرئيس المنتخب، دانت اعتداءات جرت بحق منتمين إلى أقليات داخل الولايات المتحدة عقب إعلان انتخابه.
وهكذا عرضنا في ما تقدم ثلاث ملاحظات في شأن تداعيات محتملة أو واردة لنتائج الانتخابات الأميركية على الساحة الدولية، بما في ذلك ما يخص العرب، ومع الأخذ في الاعتبار أن هذه الملاحظات هي مجرد أمثلة وليست حصرية، كما أنها، وكما كل شيء في دائرة العلوم الاجتماعية والإنسانية، تتعامل مع احتمالات تقبل الصحة بالقدر نفسه الذي تقبل به الخطأ.
وليد محمود عبدالناصر
صحيفة الحياة اللندنية