استطراداً في حديثنا عن مداميك الهيمنة الأمريكية الكلية على النظام الدولي المُنشَأ بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية (اعتباراً من عام 1945)، وعملية إعادة الإنتاج اليومية للعلاقات الدولية التي تنتظمه، نضيف إلى القائمة بعض التشكيلات/الأدوات التي يشكل وجودها استكمالاً لشروط إحكام الطوق «اللوجستي» الإسنادي على «حركة التداول في سوق» السياسة الدولية الهادر، والتحكم في «تقلبات تداولاته» اليومية، وفي إيقاع عملية تسييره وتوجيهه. من هذه التشكيلات على سبيل المثال لا الحصر، منظمة حظر الأسلحة الكيميائية التي أُنشئت في عام 1997 واختيرت مدينة أوروبية أيضاً هي لاهاي في هولندا لتكون مقراً لها.
وعلى الرغم من أن سوريا ليست عضواً في المنظمة إلا أنه تم إجبارها بواسطة قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2118 الصادر في 28 سبتمبر 2013 على نزع ترسانتها من الأسلحة الكيماوية بالتهديد بالحرب إن هي لم توافق على التخلي نهائياً عنها بعد أن كان أجبرها على الانضمام للاتفاقية في 14 سبتمبر 2013. في حين أن «إسرائيل»، وهي عضو في المنظمة لا تتعرض لأي نوع من أنواع الضغط من أي كان ليس لإجبارها على نزع سلاحها الكيماوي، وإنما إجبارها فقط على التصديق على اتفاقية إنشاء المنظمة الذي ترفضه حكومتها.
محكمة الجزاء الدولية نموذج آخر صارخ على بشاعة النظام الدولي الذي تنفرد الولايات المتحدة منذ 1945 بقيادته. فهذه المحكمة التي أُنشئت في عام 1998 وأصبحت نافذة في عام 2002، واختيرت عاصمة أوروبية، كالعادة، هي روما لتكون مقراً لها، هي مثال آخر على الوظيفة الأصلية التي أُنشئت خصيصاً لها، وهي تتتبع وتبتز الدول غير «المتعاونة» وغير المستجيبة طواعية لإرادة حاكم «الباب العالي». وفي حين ترفض الولايات المتحدة التصديق حتى اليوم على اتفاقيتها، لحجب ولاية المحكمة عن القوات والمواطنين الأمريكيين، إلا أن المحكمة تأتمر بأمرها، فتنتقي رؤساء الدول «غير الصديقة لبيئة» الولاء الكامل للوصاية والمصالح الأمريكية «وتجرجرهم» لقاعات محاكماتها وسجونها. وهو ما دعا كل من جنوب إفريقيا وبوروندي وغامبيا للانسحاب من المحكمة بعد أن ضاق الأفارقة ذرعاً بازدواجية معاييرها وملاحقتها لحكام القارة وترك الحكام الأوروبيين المتورطين في ارتكاب جرائم إبادة، وجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب (وفقاً لاختصاص المحكمة)، مثل جورج بوش وتوني بلير وغيرهما. وكما قال وزير الإعلام الغامبي شريف بوجانغ «إن المحكمة الجنائية الدولية تمارس الاضطهاد تجاه الأفارقة، وخصوصاً حيال قادتهم»، معتبراً أن «30 بلداً غربياً على الأقل ارتكبت جرائم حرب» منذ تأسيس هذه المحكمة، ولم تتخذ بحقها أية إجراءات.
وفي المجال الرياضي رأينا كيف أطاحت الولايات المتحدة كامل طاقم قيادة الاتحاد الدولي لكرة القدم، ومقرها أيضاً وأيضاً مدينة أوروبية غربية أخرى هي زيوريخ السويسرية هذه المرة، ورحّلتهم إلى واشنطن لمحاكمتهم هناك بتهم الفساد. ورأينا كيف تم توظيف الوكالة العالمية لمكافحة المنشطات التي تتخذ اعتباراً من عام 2002 من مونتريال الكندية مقراً لها، في الجولة الجديدة من الحرب الباردة المندلعة بين روسيا والغرب على خلفية أحداث أوكرانيا وسوريا، وكيف تم حرمان معظم فرق الألعاب الرياضية الروسية من المشاركة في أولمبياد ريو دي جانيرو الأخيرة وفي أولمبياد ذوي الاحتياجات الخاصة الذي استضافته نفس المدينة تالياً.
وكما تلاحظون فإن باني هياكل النظام الدولي العتيق، وهو هنا الولايات المتحدة الأمريكية أساساً، لم يتوقف عن استكمال ما يحتاج اليه «الهيكل» من إضافات جديدة تستدعيها الظروف الموضوعية المتحركة. فإلى جانب تعزيز بناء «حجرات» الهيكل، ومنع أية محاولة لإدخال «تحسينات» أو «ترميمات» على بنيان مؤسساته، فإنها عملت بانتظام على إدخال «إضافات» جديدة عليه بنفس المقاييس وبنفس المعايير التي أنشأت بها الأولى. ففي حين أن أغلبيتها أُنشئت بعد الحرب مباشرة، فإن هناك مؤسسات استحدثت بعد مرور 20 سنة على نهاية الحرب وإنشاء صلب النظام، وهناك مؤسسات أُنشئت حديثاً مثل محكمة الجزاء الدولية سالفة الذكر. مع حرص «زعيمة النظام الدولي» على أن تكون جميع مقار هذه المنظمات، كما لاحظنا، إما في الولايات المتحدة أو في إحدى مدن أوروبا الغربية. وهذا يمنح هذه البلدان ميزة أكثر من نسبية، سواء لخلق فرص عمل معظمها من نصيب مواطنيها، أو لجهة الفوز بحصة مضمونة من سياحة المؤتمرات على مدار العام، أو لجهة استخدام عامل الأرض للتأثير المعنوي في الدول المشاركة في هذه المنظمات.
هو نظام دولي استعماري فاقع، تقوم فيه أدواته، وهي هنا المؤسسات الناظمة لحركته، مقام الجيوش الاستعمارية، بتأمين عقود وصفقات ومجمل مصالح الولايات المتحدة أولاً وثانياً، وتابعاتها الأوروبيات الغربيات تالياً.
د.محمد الصياد
صحيفة الخليج
– See more at: http://www.alkhaleej.ae/studiesandopinions/page/97c3de84-8d7c-4dc9-b75a-cdad699f7a61#sthash.dnjUYiQg.dpuf