بعد مرور أكثر من خمس سنوات على الحرب في سوريا، تزداد معظم المعارضة المسلحة للرئيس بشار الأسد تشرذماً، باستثناء تنظيم «الدولة الإسلامية» («داعش») و«قوات سوريا الديمقراطية» التي يقودها الأكراد. وقد أصبح التنبؤ بديناميات التمرد أكثر صعوبة مع استمرار عدد التنظيمات في التزايد وتغير التحالفات التي تجمعها من حيث التركيبات والتسميات. إلا أن السمة العالمية الأوسع للمعارضة هي هويتها السنية – فباستثناء الجهاديين الأجانب، فإن معظم المتمردين هم من العرب السنة، ومع انضمام بضعة آلاف من التركمان السنة إليهم، فمن الإنصاف الإشارة إليهم بـ “التمرد السني”. إلا أن هذا التجانس الديني لا يكفي لمنح المعارضة المسلحة التماسك العسكري والهوية السياسية الموحدة اللذين تحتاجهما بشدة. وإذا ما أمعنا النظر في المنحى الجغرافي لهذا التشرذم فبإمكانه أن يساعد المراقبين على فهم هذا التمرد بشكل أفضل وتقدير حظوظه بالنجاح.
بين 100,000 و 150,000 مقاتل
في تقرير صدر في شهر آذار/مارس، عمل “معهد دراسات الحرب” على تصنيف ثلاثةٍ وعشرين جماعة من مئات الجماعات المتمردة في سوريا ضمن فئتَي “أصحاب النفوذ” الرئيسيين و “أصحاب النفوذ المحتملين” في المعارضة. وبالإجمال، قُدّر عدد المقاتلين تحت إمرة هذه التنظيمات بتسعين ألفاً.
وقد وصف التقرير فئة ثالثة من التنظيمات، يضم كلٌّ منها بضع مئات من المقاتلين. وفي حين أن غالبية الفصائل الستة والعشرين في هذه الفئة لا تفصح عن أي إيديولوجية، إلا أن العديد منها يرتبط بتنظيم «القاعدة»، وعلى وجه التحديد: «جند الأقصى» و«حركة فجر الشام الإسلامية» و«إمارة القوقاز في أرض الشام» بالإضافة إلى الكتيبة التي تُدعى «أجناد القوقاز».
ويذكر التقرير أيضاً فئة رابعة تتألف من مئات التنظيمات الأصغر حجماً التي يضم كلٌّ منها بضع عشرات من المقاتلين. وهذه الفصائل مرتبطة بالعشائر المحلية ويتمثل هدفها الرئيسي بحماية أحيائها أو قراها؛ فهي عاجزة عن شنّ عمليات هجومية.
من الصعب تقدير العدد الإجمالي للمقاتلين في الفئتين الثالثة والرابعة، وتتراوح أفضل التقديرات بين عشرة آلاف وستين ألفاً. وبالتالي، يمكن أن يتراوح عدد أفراد “التمرد السني” بالإجمال بين مئة ألف ومئة وخمسين ألف مقاتل.
وفي المقابل، لدى النظام السوري نحو 125 ألف جندي نظامي و 150 ألف عضو من الميليشيات الموالية للحكومة، من بينهم نحو خمسين ألف مقاتل شيعي من خارج البلاد (أي أفراد «حزب الله» والعراقيين الذين تدربوا في إيران، والباكستانيين، والهزارة الأفغانيين). لكن النسبة الكبرى من أفراد القوات من السكان الأصليين، مكرسة للدفاع عن الأراضي وخطوط الاتصالات، وحوالي ربعها فقط قادر على شن هجمات.
أما «قوات سوريا الديمقراطية» فتملك مع عنصرها الرئيسي «حزب الاتحاد الديمقراطي» الكردي في سوريا نحو ثلاثين ألف مقاتل. وفي ما يخص تنظيم «الدولة الإسلامية»، تعتقد “وكالة الاستخبارات المركزية” الأمريكية أن التنظيم يعدّ في صفوفه ما لا يقل عن ثلاثين ألف مقاتل في سوريا والعراق. غير أن باتريك كوكبورن من صحيفة “إنديبندنت” يجادل بأن هذا الرقم يخفق إخفاقاً هائلاً في تقدير العدد الصحيح لأن التنظيم جنّد آلاف المقاتلين المحليين بعد استحواذه على مساحات واسعة من الأراضي في عام 2014. وفي رأيه، قد يصل عدد قوات التنظيم إلى نحو مئتي ألف مقاتل، ربعهم في سوريا (على الرغم من أن قدرات هؤلاء المقاتلين الإضافيين وولاءاتهم، بغض النظر عن عددهم، من المحتمل أن لا ترقى إلى مستوى المقاتلين التابعين لنواة تنظيم «الدولة الإسلامية»).
الفئات السياسية الدينية
قام “معهد دراسات الحرب” بخطوة مفيدة حين صنّف مختلف الجماعات المتمردة ضمن أربع فئات إيديولوجية هي: الجهاديون السلفيون المتعددو الجنسيات (أي المقاتلين المرتبطين بتنظيم «القاعدة»)، والجهاديون السلفيون المحليون، والإسلاميون السياسيون، والعلمانيون. والفارق بين الجهاديين المحليين والإسلاميين السياسيين شبيهٌ تقريباً بالفارق بين السلفيين و«الإخوان المسلمين» – أي بعبارات أبسط، يسعى أصحاب المجموعة الأولى إلى تطبيق الشريعة الإسلامية بحذافيرها، بينما يفضّل الكثيرون من المجموعة الثانية إنشاء دولة ذات دستور مدني إسلامي ولكن مع حماية الحرية الدينية. أما بالنسبة لـ “العلمانيين”، فيُستخدم هذا المصطلح بشكل طليق لأن معظم مقاتلي هذه الفئة مسلمون محافظون لا يريدون فعلياً حكومة علمانية.
ومن بين المتمردين المنتمين إلى الجماعات “أصحاب النفوذ” البالغ عدددهم تسعين ألفاً، يمكن تصنيف نحو 20 في المائة منهم كجهاديين متعددي الجنسيات، و31 في المائة كجهاديين محليين، و24 في المائة كإسلاميين سياسيين، و25 في المائة كـ “علمانيين”. وإذا أضفنا آلاف المتمردين من غير فئة أصحاب النفوذ، يصبح “العلمانيون” المجموعة الكبرى ولكن أيضاً الأكثر تشرذماً وبالتالي الأقل فعاليةً.
التأثيرات الخارجية تؤدي إلى تعميق الانقسام
فشل أنصار المعارضة الخارجيون في إنشاء غرفة عمليات واحدة وموحدة تستطيع من خلالها تحالفات المتمردين تنسيق الهجمات الواسعة النطاق. فلدى كلٍّ من الحكومات الغربية والمملكة العربية السعودية والتحالف القطري التركي عملاءٌ خاصون بهم: فالغرب يموّل العلمانيين بالدرجة الكبرى، والرياض تميل إلى تمويل الجهاديين السلفيين السوريين، بينما تموّل الدوحة وأنقرة الإسلاميين السياسيين. وفي حين تمكنت غرفة العمليات المقامة في الأردن وتركيا من جمع هؤلاء الشركاء الخارجيين تحت سقف واحد لدعم الفصائل العلمانية والإسلامية السياسية، إلا أن الدعم الذي تقدمه هذه المراكز يقل أهميةً عن الدعم المباشر الذي تقدمه دول الخليج العربية، الأمر الذي ساعد على تهميش العلمانيين.
وقد اقترن هذا الانقسام بين الجهات المانحة مع الخلافات الإيديولوجية الداخلية لكي يسبب عدة مواجهات بين الجماعات المتمردة. فتنظيم «جبهة فتح الشام» التابع لتنظيم «القاعدة»، والذي كان يطلق على نفسه حتى الصيف الماضي اسم «جبهة النصرة» قام بالقضاء بشكل منهجي على التنظيمات التي عارضت هيمنته على شمال غرب البلاد، وخاصة تلك المرتبطة بـ «الجيش السوري الحر». وفي ضواحي الغوطة في دمشق، شنّ «جيش الإسلام» و«فيلق الرحمن» بمساعدة «جبهة النصرة» حرباً ضارية ضد الآخر في ربيع هذا العام، مما سمح للجيش باستعادة نصف الغوطة الشرقية في غضون ستة أشهر. وفي الآونة الأخيرة، ساهمت المعارك بين «جند الأقصى» و«أحرار الشام» وبشكل كبير في فشل الهجوم على حماة الشهر الماضي، علماً بأن كليهما عضو في نفس التحالف («جيش الفتح»).
جبهات مختلفة
في غياب قيادة موحدة، تتجمع كتائب المتمردين في تحالفات إقليمية؛ وحينما تحقق هدفاً عسكرياً معيناً تنفصل وتعيد التفاوض على المشاركة في عملية جديدة. من هنا، يقوم تماسك هذه التحالفات بالدرجة الأولى على استدامة التمويل الخارجي و/أو قدرة التنظيم المسيطر على الحفاظ على وحدته.
وحتى الآن، يعتبر «جيش الفتح» التحالف الأكثر فعاليةً واستدامة، وقد أُنشئ من قبل «جبهة النصرة» في شمال غرب البلاد خلال شباط/فبراير 2015، وهو آخذٌ في التوسع بفضل نجاحاته العسكرية وقوته القسرية التي يفرضها على التنظيمات الأخرى. وتحاول «جبهة النصرة» تكرار هذا النموذج في جبهات أخرى. وهذا الفرع التابع لتنظيم «القاعدة» (إلى جانب الكتيبة القوية الأخرى المعروفة بـ «أحرار الشام») منضمّ في الوقت الراهن إلى سبعةٍ من تحالفات المعارضة العشرة في المنطقة، والثلاثة الأخرى المستثناة هي تحالف «الجبهة الجنوبية» و«فتح حلب» و«درع الفرات».
«الجبهة الجنوبية»: أنشئ هذا التحالف في شباط/فبراير 2014 من قبل “مركز العمليات العسكرية” في عمان، وينضوي تحت هذا التنظيم الرئيسي نحو 23 ألف مقاتل ينتمون إلى خمسة تنظيمات “علمانية”. إلا أن الباحث آرون لاند أصدر تقريراً بعد شهر من تأسيس التحالف قال فيه إنه فقط حبرٌ على ورق، وأن تنظيماته الخمسة الرئيسية ما هي إلا اتحاد ضعيف من الميليشيات القروية. وعلى أي حال، فشلت مساعي «الجبهة الجنوبية» في الاستحواذ على دمشق عام 2014 ومن ثم درعا في حزيران/يونيو 2015. وقد اقتصر نشاطها العسكري منذ أيلول/سبتمبر 2015 على الصراع بوجه تنظيم «الدولة الإسلامية».
منطقة دمشق: تضم منطقة دمشق نحو عشرين ألف مقاتل من المتمردين، نصفهم (ينحدر من «جيش الإسلام» و«فيلق الشام» و«جبهة النصرة») مطوقّ حالياً من قبل قوات النظام في الغوطة الشرقية. وقد خسر هؤلاء البلدات الواحدة تلو الأخرى في الضواحي الغربية (أي داريا والمعضمية وقدسيا). أما في جبال لبنان الشرقية، فتسيطر قوات الأسد على الزبداني ومضايا لضمان أمن بلدتَي الفوعة وكفريا الشيعيتين في محافظة إدلب.
وكان أولئك المتمردون المطوّقون يأملون في السيطرة على دمشق، إلا أن جميع هجماتهم منذ صيف 2012 باءت بالفشل. والآن فقدوا الأمل في تحقيق هذا الهدف أو حتى في أن يتم إنقاذهم من جهة الجنوب. ولذلك عمدت بعض الفصائل في داريا وقدسيا إلى عقد الصفقات ليتم إخراجها خلسةً وإرسالها إلى محافظة إدلب الواقعة تحت سيطرة المتمردين، وقد كان النظام مستعداً للتساهل مع هذا المخطط لأنه يسهل عليه استرجاع هذه المنطقة القيّمة بالقرب من العاصمة بعد رحيل المتمردين المحليين عنها.
الشمال الغربي: ينحصر تركيز التمرد حالياً في شمال غرب البلاد حيث يحتشد نحو 47 ألف مقاتل، ثلاثة أرباعهم من الكتائب الجهادية والإسلامية. وقد أقامت «جبهة النصرة» وحلفاؤها مبدئياً إمارة إسلامية في منطقة إدلب عبر القضاء تدريجياً على التنظيمات العلمانية أو دمجها.
ومع ذلك، فمنذ تدخل روسيا في الحرب في العام الماضي، اضطر حتى أولئك المتمردون المتواجدون في هذه الجبهة إلى الانسحاب. وعلى الرغم من أن خسائرهم من الأراضي لم تكن كبيرة، إلا أنها كانت استراتيجية – إذ لم تعد مناطق النظام الرئيسية في اللاذقية وحماه وحلب معرضة للخطر.
أما في منطقة حلب الشرقية، فتهيمن حالياً «جبهة النصرة» وحلفاؤها على التمرد بينما يبدو تحالف «فتح حلب» مهمّشاً. ويشن «جيش الفتح» الهجمات باتجاه جبهتَي حماه واللاذقية بقيادة قوات «جبهة النصرة» من أجل صرف اهتمام الجيش عن حلب لكي يتمكن المتمردون أخيراً كما يُحتمل من السيطرة على تلك المدينة. وعلى الصعيد الأوسع، فإن «جبهة النصرة»، عبر الحفاظ على خطها الراديكالي ورفضها التفاوض مع نظام الأسد أو غيره من الأطراف المعنية، عملت على استقطاب المتمردين الآخرين المستائين من غياب دعم الحلفاء الخارجيين.
شمال شرق حلب: ثمة خمسة آلاف مقاتل من المتمردين في المنطقة المعزولة بين أعزاز ومارع وقد تلقوا التعزيزات من آلاف المقاتلين الموالين للأتراك من محافظة إدلب، بمن فيهم أولئك من كتيبة التركمان «فرقة السلطان مراد». والهدف الرئيسي من هجومهم هو إقامة منطقة آمنة بين أعزاز وجرابلس وبالتالي منع «حزب الاتحاد الديمقراطي» من توحيد الأقاليم الكردية على طول الحدود الشمالية.
المنطقة المعزولة بين الحولة والرستن: هناك بضعة آلاف مقاتل مطوقين مبدئياً في هذا المعقل الواقع بين حمص وحماه. ويبدو أن «حركة تحرير حمص» هي التنظيم المسيطر عليهم، وهذا الفصيل متمركز في الرستن ومصنّف ضمن فئة الإسلاميين السياسيين في تقرير “معهد دراسات الحرب”. كما أنه ينافس كلاًّ من «جيش الشام» في تلبيسة والتحالف المحلي في الحولة على موقع القيادة.
ومع ذلك، يبقى الوضع في هذه المنطقة أهدأ مما هو عليه في الغوطة الشرقية. فقد شن المتمردون عدة هجمات في الشمال للمساعدة في معركة حماه والاتصال بمحافظة إدلب الخاضعة للثوار. وهذه فرصتهم الوحيدة لتفادي مصير إخوانهم في الغوطة على الرغم من أن الجيش قد يتحرّك بشكل مباشر ضد هذا المعقل.
كيفية تجنب قيام أقاليم للجهاديين
على الرغم من أن المتمردين غير الجهاديين يفوقون عدداً المتمردين الجهاديين كما يُفترض، إلا أنهم منقسمون ومهمّشون جداً في معظم الجبهات، مما يمنح الجهاديين التفوق [في ميدان المعركة]. إن الغرب وحده، وتحديداً الولايات المتحدة، قادراً على مساعدة المتمردين “العلمانيين” في استعادة دورهم الأساسي. إن ذلك يستدعي قيام الإدارة الأمريكية الجديدة بالتصرف بسرعة. وحتى إذا حدث ذلك، من الممكن أن لا تنجح هذه السياسة إذا استمرت المملكة العربية السعودية وقطر وتركيا في دعم الفصائل الإسلامية. بيد، قد تكون هذه هي الوسيلة الوحيدة لمنع تحوّل مناطق المتمردين إلى “أقاليم للجهاديين” كما سبق أن حدث في محافظة إدلب.
فابريس بالونش
معهد واشنطن