لا يخلو تحديد مفهوم دقيق للسلام من صعوبات سياسية وقانونية ومعرفية، بالنظر إلى انفلاته وتطوره، وبالنظر أيضاً إلى اختلاف المقاربات بين الباحثين والمهتمين في هذا الخصوص، حتى إن الميثاق الأممي لم يتطرق بدوره بالتفصيل لهذا المصطلح المهم والخطر في نفس الآن، والذي تكرّر أكثر من مرّة في هذا الميثاق. وعموماً يعبّر السلام عن تلك الحالة من الاستقرار والطمأنينة وغياب التوتر والحروب..
شكّل تحقيق السلام مطمحاً لكافة شعوب العالم مع تنامي الحروب وما خلفته من دمار على مختلف الواجهات في العصر الحديث، وهو ما دفع إلى تأسيس عصبة الأمم وبعدها هيئة الأمم المتحدة، واعتماد عدد من الاتفاقيات والمعاهدات في مختلف المجالات والميادين..
ومع تشابك العلاقات الدولية وتطورها في العقود الثلاثة الأخيرة، وما رافق ذلك من تحرّر العالم من تبعات الحرب الباردة، والتفاته إلى مخاطر جديدة، أضحى مطلب السلام أكثر إلحاحاً وضرورة..
خيّمت أجواء التوتر والصراع بظلالها القاتمة على العلاقات الدولية، بفعل ظروف الحرب الباردة التي كادت أن تدخل العالم في متاهات حروب مدمّرة.. وهو ما جعل مفهوم السلام يقترن في هذه الفترة الصعبة بغياب التهديدات العسكرية، بما يعنيه ذلك من تركيز على محدد وحيد يحكمه الهاجس العسكري..
وقد زاد من حدّة التهديدات خلال هذه المرحلة، انتشار مظاهر التوتر والأزمات في عدد من مناطق العالم، وتفاقم الصراعات الداخلية على السلطة داخل عدد من الدول حديثة العهد بالاستقلال.
تنفّس العالم الصّعداء، مع انتهاء الصراع الإيديولوجي والاستقطاب الدولي وعودة الأمم المتحدة إلى الواجهة في بداية التسعينات من القرن المنصرم بعد عقود من الشّلل، وهكذا بدأ الالتفات إلى المخاطر الدولية العابرة للحدود سواء تعلق الأمر بتداعيات التحولات الديمقراطية وانتهاكات حقوق الإنسان وتلوث البيئة والإرهاب الدولي والجريمة المنظمة والأمراض الخطرة العابرة للحدود.. وهو ما جعل مدلول السلام يبدو في هذه الأجواء أكثر توسّعاً وشمولية..
تشير الكثير من التقارير والدراسات والمؤشرات إلى أن الإرهاب الدولي بكل أشكاله ومظاهره، أضحى من بين أكبر التهديدات التي تواجه المجتمع الدولي برمّته، رغم المقاربات القانونية والجهود الأمنية والاتفاقية المعتمدة إلى حدود اليوم..
منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول للعام 2001 اقتنع العالم أن الأمر يتعلق بخطر داهم وجدّي ومتطوّر، حيث انخرطت الكثير من الدول في بلورة جهود مختلفة لاحتوائه.. غير أن ذلك لم يسمح بتحقيق نتائج مريحة في هذا الخصوص، مع تمدد الجماعات الإرهابية على امتداد مناطق مختلفة من العالم، وظهور جماعات أكثر تطرفاً وعنفاً، بفعل هيمنة المقاربات الانفرادية والأمنية وعدم بلورة مفهوم دولي متّفق عليه حول الظاهرة، والتركيز على إرهاب الأفراد والجماعات دون إرهاب الدول, وهو ما يفرض تطوير الآليات واعتماد الشمولية في التعاطي مع الظاهرة، والمزج بين تدابير داخلية وأخرى دولية في هذا الخصوص.
أما فيما يتعلق بتلوث البيئة، فقد كان لحادث «تشيرنوبيل» النووي في أوكرانيا سنة 1986 الأثر الكبير في لفت الأنظار إلى هذا المشكل الإنساني المتصاعد، والذي لا يعترف بالحدود السياسية الفاصلة بين الدول.. حيث انخرط العالم منذ ذلك الحين في اعتماد تدابير واتفاقيات دولية تدعم تنسيق الجهود للحد من الأخطار التي تهدد الإنسان ومحيطه البيئي..
انتقل الهاجس البيئي من العلم إلى السياسة، فأمام التحذيرات المتتالية التي تحملها التقارير والأبحاث العلمية من حجم التلوث الذي يطال البيئة بمكوناتها المختلفة، على مستوى تعرّض أنهار العالم للتلوث بحوالي 50 في المئة، وكذلك الأمر بالنسبة لقطع وتدمير الغابات، وفقدان معظم الأراضي الزراعية لخصوبتها، وتنامي زحف الرمال، وارتفاع درجة الحرارة بالأرض.. ازداد الاقتناع بجدية هذه المخاطر، وبأهمية اعتماد مقاربات جماعية توازن بين تحقيق التنمية والرفاه من جهة، وحماية الأجيال القادمة وتلبية حاجياتها دون الإضرار بالبيئة من جهة أخرى، في إطار من التعاون الدولي..
صار من الصعب تحقيق السلام والأمن دون استحضار البعد البيولوجي الذي يفرض بلورة جهود حقيقية لتنظيم إدارة الموارد الطبيعية وعقلنة استغلالها، والتي غالباً ما يكون التنافس حولها مغذّياً للعديد من الصراعات على امتداد مناطق مختلفة من العالم.
ورغم الجهود الدولية المبذولة في هذا الشأن والتي تجسّدها العديد من الاتفاقات المتعددة الأطراف، إلا أن بنود الكثير منها لم تترجم ضمن السياسات الميدانية للدول، بل تحول الأمر إلى تراشق بالتهم بين الدول فيما يتعلق بالمسؤولية عن تلويث البيئة.
يبدو أن الآليات الدولية المعتمدة إلى حدود اليوم في حماية وحفظ السلام العالمي بحاجة إلى تقييم ومواكبة وتطوير أكثر، لمواجهة تحديات تواجه الإنسانية جمعاء، عبر سبل تنسجم مع حجم المخاطر والتطورات المختلفة التي شهدها العالم في السنوات الأخيرة.
إن ربح رهان تحقيق السلم والأمن الدوليين يتطلب تفعيل أدوار الأمم المتحدة على الصعيد الوقائي والعلاجي، والعمل على إدارة الأزمات الدولية بسبل بناءة وفعالة، ودعم التجارب الديمقراطية الوليدة في العالم، وتعزيز التعاون والتنسيق جنوب – جنوب وشمال – جنوب في مختلف المجالات، وتطوير القانون الدولي ليواكب تنامي مختلف المخاطر غير «الدولاتية»..
إن هذه الأولويات والمخاطر الدولية الآخذة في التطور والانتشار، ينبغي أن تكون حافزاً نحو تذليل الخلافات الدولية ونبذ الصراعات، ومحفزاً على طلب السلام والتعاون.. خدمة للأجيال القادمة.
إدريس لكريني
صحيفة الخليج