وصف لي ملازم سوري كيف أنه وجه نيران مدفعيته إلى سيارة جيب إسرائيلية في بلدة الحميدية التي تحتلها جبهة النصرة داخل سورية ودمرها. ربما تكون سيارة الجيب هدية أو مستعارة من إسرائيل.
* * *
مدينة البعث، تحت هضبة الجولان السورية – في موقع العقيد صالح المتقدم على خطه الأمامي في الجبهة شمال القنيطرة، يحمل العقيد وجهة نظر فريدة وحصرية من الحرب السورية. إلى الغرب والجنوب من موقعه، هناك منطقة واسعة من بلاده يحتلها مقاتلو جبهة النصرة الإسلاميون –الذين تقع متاريسهم الترابية وطرق إمداداتهم بالكاد على بعد نصف ميل. ثم، على بعد بضعة أميال، ثمة الجنود الإسرائيليون يتمترسون داخل مواقعهم الاسمنتية على مرتفعات الجولان السورية المحتلة، فوق مدينة القنيطرة السورية القديمة التي تحتلها جبهة النصرة.
يسألني العقيد صالح: “أترى ذلك المسجد هناك، إلى اليمين مباشرة من برج المياه؟ حسناً، النُصرة هناك. أترى التل مثلث الشكل بعده؟ الإسرائيليون هناك”. هذا ما يمكن أن تسمونه ميدان معركة خادع من الناحية السياسية -نعم، تأتي القذائف بأزيز إلى هنا نحو السوريين من جبهة النصرة، وأيضاً من الإسرائيليين. ويركز السوريون نيرانهم على النصرة، لكن إصابات مقاتلي النصرة غالباً ما تُؤخَذ عبر الخطوط الإسرائيلية لتلقي العلاج في المستشفى في حيفا.
وإذن، أي جانب هو الذي تصطف معه إسرائيل؟ مدينة البعث هي مجتمع حضري إسمنتي، تم إنشاؤها في الأيام التي سبقت الحرب الأهلية لتحدي تخريب مدينة القنيطرة القديمة. وقد احتلها الجيش الإسرائيلي خلال حرب الشرق الاوسط في العام 1973 -وبعد ذلك، غادرها الإسرائيليون بموجب اتفاق كيسنجر- بعد أن قامت القوات الإسرائيلية بتدميرها تماماً بالمتفجرات. والآن، تحتل جبهة النصرة هذه الأطلال البالغة من العمر 43 عاماً. أما مدينة البعث، فيحتفظ السوريون بجامعتها، ومصارفها، ومحطة إطفائها، ومدارسها ومركز شرطتها ومستشفياتها بتحد، تحت أعين عدوين: إسلاميي النصرة والإسرائيليين.
وفقاً للجيش السوري في مدينة البعث –الذي تقع خطوطه المتقدمة وتتمركز دباباته في مجمعات سكنية غير مكتملة البناء على حافة المدينة- فإن قسم استخباراته المتحدث بالعبرية يراقب باستمرار محادثات تجري بين الإسرائيليين، وبين الإسرائيليين وجبهة النصرة. وهم يعرفون –ولم يخفِ الإسرائيليون حقيقة- أن مقاتلي النصرة الجرحى يُؤخذون إلى حيفا لتلقي العلاج في المستشفيات هناك. وفي إحدى المرات، قام حشد من رجال الدروز الغاضبين الذين يدينون بالولاء للحكومة السورية ويعتبرون جبهة النصرة عدوهم اللدود، قاموا بجر رجل من النصرة يُنقل في سيارة إسعاف إسرائيلية في الجولان، وقاموا بإعدامه. وأبرزت التقارير عن حادثة قتل الرجل تلك العلاقة الغامضة للغاية بين إسرائيل والإسلاميين، الذين لا يمكن أن يخفي تغييرهم لاسم منظمتهم جذورهم الحقيقية في تنظيم القاعدة.
اختارت البلدات الدرزية داخل سورية وعلى مقربة من مدينة البعث الاصطفاف إلى جانب النظام –ولا ينطبق هذا على المناطق الدرزية الأخرى- ولكنه يجعل جغرافيا الخط الأمامي هنا أكثر سوريالية. وقد وصف لي ملازم سوري كيف أنه وجه نيران مدفعيته إلى عربة جيب إسرائيلية في بلدة الحميدية التي تسيطر عليها جبهة النصرة داخل سورية، ودمرها. وقد يكون الجيب هدية أو مستعاراً من إسرائيل -أما إذا كان هناك أي أفراد إسرائيليين في داخله عندما قُصف، فهي مسألة أخرى. ومع ذلك، يقول السوريون أيضاً أن الجرافات الإسرائيلية استخدمت لبناء طريق إمداد جديد لجبهة النصرة بين القنيطرة والجولان -مرة أخرى، في داخل الحدود السورية.
حول الخطوط الأمامية خارج مدينة البعث، يتناثر حطام المعارك الماضية ومواقع الأمم المتحدة المهجورة التي تم اختطاف الجنود الفلبينيين الأمميين منها بشكل جماعي منذ أكثر من عام. ويحتل الجيش السوري الآن العديد من هذه المواقع، وما يزال شعار الأمم المتحدة مرسوماً على الجدران، على الرغم من أن العديد من أكواخ الإقامة التابعة للأمم المتحدة نُقلت بواسطة المركبات السورية إلى الخطوط الخلفية. والآن، تعمل قوة الأمم المتحدة الموجودة في الجولان فقط داخل الأراضي التي تحتلها إسرائيل.
على بعد بضع ياردات قليلة فقط عن الأراضي الخاضعة لسيطرة النصرة، وجدنا أبو هاشم، وهو مزارع فر من قريته التي يسيطر عليها الإسلاميون الآن، ويعيش مع عائلته اليوم في ممتلكات الأسرة بالقرب من أحد المواقع القديمة للأمم المتحدة. وقدم لنا أبو هاشم الشاي والقهوة والجوز من بستانه. وتقيم زوجته وأطفاله الستة الآن في هذا المنزل البارد غير مكتمل البناء، الذي يضم مكتبة صغيرة من الكتب -خطب الإمام علي (“نهج البلاغة”) ومجموعة من الكتب الطبية عن علاجات حلب بالأعشاب للصداع والتهاب الكلى، المنشورة في بيروت. ويقول أبو هاشم أن الناس في قريته التي تحتلها جبهة النصرة منقسمون. بعضهم متعاطفون مع الإسلاميين –لكنهم ليسوا مقاتلين- في حين تسمح النصرة لآخرين أحياناً بعبور الخطوط الأمامية لتلقي العلاج في المستشفيات الحكومية السورية. إنهم بدو ومزارعون، ويظل السكان غير المستقرين وملاك الأراضي دائماً فريسة للذئاب من متمردي الحرب الأهلية.
كان العقيد صالح، 50 عاماً، يحرس مجمعات الشقق السكنية الخاوية التي يتردد الصدى في جنباتها وتنتشر فيها الأعشاب الضارة على حافة مدينة البعث منذ ثلاث سنوات، مشيراً بقلق إلى أن الإسرائيليين يهاجمون جيشه، ولكنهم لا يهاجمون جبهة النصرة التي ينبغي أن تكون قد كسبت عداء الإسرائيليين، بما أنها جزء من تنظيم القاعدة.. ولكن، كلا. ويقول العقيد: “أنا أعرف كل حجر هنا، يمكنني معرفة ما إذا كانت صخرة أو مركبة قد انتقلت من مكانها في الحقول أمامنا -وأستطيع أن أرى فوراً ما إذا كانت مركبة واحدة قد أصبحت مركبتين. إننا نعرف متى سيهاجمون –دائماً ما يسبقون هجماتهم بقصف المدفعية الكبيرة وقذائف المورتر”.
في بعض الأحيان، تصرخ أصوات رجال جبهة النصرة بالشتائم للسوريين على أجهزة الراديو الخاصة بهم، وتصفهم بأنهم “كفار”. ويقول العقيد صالح: “إذا كنتُ في مزاج جيد، فإنني أدعوهم لشرب القهوة. وإذا كنتُ في مزاج سيئ، فإنني أبقى صامتاً. لهجاتهم مشابهة جداً للأردنيين. إنهم يأتون من الجنوب من درعا، على الحدود الأردنية”.
بينما كنا نتحدث، كان السوريون ومقاتلو النصرة يشتبكون بالدبابات والمدفعية وقذائف الهاون في مكان أبعد أسفل خط الجبهة. وادعى السوريون أن أعداءهم وصلوا في عدة اتجاهات في قافلة مكونة من 13 سيارة على الأقل. وتحدثوا أيضاً عن ضابط أنثى من جبهة النصرة، تدعى سعاد القحطاني (تلقب بـ”العنود”)، وهي الشقيقة ذات الثلاثين ربيعاً لضابط في النصرة يُدعى “قيس العُماني”، الذي يقود 1200 مقاتل. وأشاروا، باندهاش، إلى أنها كانت تحمل رتبة ملازم أول في جيش الحكومة السورية.
ثمة سمة إضافية أشار إليها السوريون في أعدائهم خارج مدينة البعث: كلما قام مقاتلو النصرة بإطلاق صاروخ، فإن عليهم التقاط صورة له وهو يغادر منصة الإطلاق -ويفترض أن ذلك يحدث لكي تثبت الجبهة لمورديها أنها لا تقوم ببيع السلاح إلى طرف آخر. إن الثقة، كما جرت العادة في الحرب السورية، تعاني من نقص في المعروض.
روبرت فيسك
صحيفة الغد