تمثل الإمبراطورية الرومانية الأولى ومركزها إيطاليا أول محاولة كبرى لتوحيد أوروبا، وشمل العالم الروماني أجزاءً من شرق المتوسط وشمال أفريقيا، لكن هذه المحاولة في بداياتها لم تكن تحت شعارات قومية أو دينية، بل كانت رسالة حضارية عبر الولاء للمواطنة الرومانية التي تشمل عدداً كبيراً من الشعوب والعرقيات المختلفة التي تقع تحت سلطة القانون الروماني، وحتى النظرة الاحتقارية للرومان تجاه من وصفوهم بالبرابرة كانت بسبب اعتقاد الرومان بتفوق أنموذجهم الحضاري وليس تفوق عرقي ولا ديني.
بدأ الأمر بالاختلاف بعد استيلاء المسيحية على السلطة في روما ابتداء من القرن الرابع الميلادي، إذ أخذت الإمبراطورية الرومانية طابعاً مسيحياً مقدساً وعمل الأباطرة والباباوات لبقاء التوحيد الأوروبي تحت دعاوى دينية، وشنوا حروباً صليبية مدوية داخل أوروبا ونجحوا في إبادة كل الأديان الأوروبية وغير الأوروبية الوثنية السابقة للمسيحية باستثناء اليهودية التي صمدت للامتحان، إلا أن الإمبراطورية سقطت في النهاية تحت ضربات البرابرة الجرمان والقوط والفاندال الذين استولوا على روما واسقطوا الإمبراطورية الرومانية الغربية. استمر حلم توحيد أوروبا عبر التاريخ وإن لم يأخذ في بداياته شكل أفكار ثقافية عليا، بل أخذ أشكال حالات توحيد قسري نتيجة لطموح ملكيات في توسيع رقعة أراضيها، ولكن في أحيان ثالثة كان نتيجة لظهور تهديد خارجي أدى لظهور إحساس بوجود قيم أوروبية مشتركة حتى مع اختلاف المواقع والقوميات وظروف القبائل والملكيات الأوروبية، وهذا التهديد أدى لظهور نزعة دفاع مشترك في مواجهة المخاطر الخارجية.
مثّل النجاح السريع والمذهل للفتح الإسلامي في الأندلس أحد أكبر هذه التحديات للروح والثقافة والدين في القارة الأوروبية التي أدت لتصاعد الإحساس بالخطر الإسلامي على الثقافة الدينية في أوروبا، مما دعا أوروبا إلى التكتل خلف ملك فرنسا شارل مارتل الذي استطاع أخيراً إيقاف الزحف الإسلامي على مشارف باريس في موقعة بواتييه الشهيرة، ولكن لم يقل الإحساس الأوروبي بالخوف من التهديد الخارجي بعد انتصار بواتييه، إذ قام الملك شارلمان حفيد شارل مارتل بتأسيس «الإمبراطورية الرومانية المقدسة» الثانية على مساحة أوروبية كبرى، شملت دول قلب أوروبا التي حملت تاريخياً هم الدفاع عن المصالح والقيم القومية والدينية لأوروبا وهما ألمانيا وفرنسا، اللتان تقومان بهذا الدور منذ ذلك الوقت، مروراً بالحروب الصليبية على المشرق العربي، وحتى الوحدة الأوروبية الحالية.
سعت الدولتان بعد ذلك للتشكيل والسيطرة على القارة الأوروبية، إذ نجح نابليون بونابارت في إقناع شعبه أن له رسالة تاريخية بإنشاء الحضارة والإمبراطورية الفرنسية، فزحف في كل الاتجاهات محاولاً توحيد أوروبا، ولكن أحلامه انتهت في وارترلو على يد دوق ولينجتون، ثم جاء دور الألمان مرة أخرى عندما نجح بسمارك في توحيد ألمانيا مُطلقاً الإمبراطورية الألمانية التي عرفت بـ«الرايخ الثاني» وانتهى الحلم على يد الحلفاء في ١٩١٨، ثم سعى أدولف هتلر لتوحيد أوروبا تحت راية «الرايخ الثالث» لفرض إرادة وحضارة الشعب الجرماني على أوروبا أولاً ثم بقية البشرية، وانتهت محاولته بشكل مأسوي في ١٩٤٥.
نلاحظ أنه خلال تاريخ الصراع الأوروبي حول تشكيل الهوية والقيم الأوروبية والدفاع عنها كان إسهام بريطانيا محدوداً مقارنة مع فرنسا وألمانيا، فكانت بريطانيا تحس دائماً بنزعة الاختلاف والتفرد عن بقية أوروبا، وحتى عندما قررت بريطانيا إنشاء إمبراطوريتها العظمى ذهبت بجيوشها وطموحاتها إلى القارة الأميركية وأفريقيا والشرق الأوسط وآسيا، وظل حضورها العسكري في أوروبا محدوداً.
كان الإحساس الوطني تطور بقوة خلال عصور النهضة كرد فعل على طغيان العامل الديني وشهد نمواً متسارعاً بعد الثورة الفرنسية ونضوج مفهوم الدولة القومية، وفي أغلب أوقات صعود الحراك الوحدوي سواء العسكري على طريقة نابليون وهتلر أم الديني على أساس الإمبراطوريات المقدسة وسعي الكنيسة لبسط هيمنة على عالم متقارب الانتماء الديني كان العامل القومي هو السبب في عودة التفكك أو مقاومة التوحيد القسري، فلم يقبل الفرنسيون التوحيد تحت شروط ألمانيا النازية ولا قبلت القوميات الأوروبية الاستسلام للهوية الفرنسية لنابوليون بونابارت.
منذ نهاية الحرب العالم الثانية لجأت أوروبا لتعزيز مفاهيم وحدوية، ولكن وفق آليات جديدة بدأت باتفاقات تجارية حول الفحم والطاقة، ثم تطورت تدريجياً تحت تأثير عامل المصلحة الاقتصادية أولاً، ثم لتحقيق قدر من التكامل لتعزيز بقاء أوروبا، وتطور الوضع تدريجياً بمباركة وحماية الولايات المتحدة التي وجدت لها مصلحة في أوروبا قوية وناجحة اقتصادياً للوقوف أمام التوسع السوفياتي الذي هدد العالم الغربي، وقامت بريطانيا خلال هذه الفترة بدور مرموق على صعيد الدفاع العسكري عن أوروبا، أما في ما يتعلق بالشأن السياسي لعبت ليس فقط دور الشريك المشاغب لبقية دول الاتحاد، بل دور الزوجة الخائنة، فكانت توازن بين انتمائها الأوروبي من ناحية وانتمائها البروتستانتي الأنجلوساكسوني في علاقتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، واستطاعت التكسب على الجبهتين، فبريطانيا لم تخرج بعد من عقلية التميز والميل الانعزالية، فرفضت أصلاً دخول الاتفاق النقدي ورفضت التخلي عن الجنيه الأسترليني، واندمجت بتردد في الهوية الأوروبية، لكن على رغم العمل والبحث عن المصير الأوروبي المشترك لم تفلح أوروبا في تطوير قومية أو هوية أوروبية موحدة، على رغم المصالح الكبيرة المشتركة، فعادت القوميات الجزئية للظهور بقوة حتى وصلت إلى ما رأيناه من نتائج الاستفتاء الذي جرى في بريطانيا.
التطورات الأخيرة في أوروبا التي توجتها نتائج الاستفتاء البريطاني الذي نجم عنه اختيار إحدى أكبر دول أوروبا الانفصال عن الاتحاد الأوروبي لم تكن وليدة اللحظة، بل إن تراكماتها ومسبباتها كانت ظاهرة للعيان منذ مدة طويلة، فحتى قبل البداية الحقيقية للاتحاد الأوروبي كان بادياً للعيان أن إلقاء بعض دوله الهشة اقتصادياً والضعيفة الأسس التعليمية والإنتاجية وقدرات الصناعة والابتكار مثل اليونان في حلبة منافسة حرة مع عمالقة أوروبا في الاقتصاد والعلوم والصناعة مثل فرنسا أو ألمانيا وخصوصاً بعد توحيدها تشبه فكرة مطالبة شخص عادي بمنافسة مفتوحة على الحلبة مع بطل العالم للملاكمة، وهي منافسة نتائجها الكارثية واضحة مقدماً على الدول الأقل قدرة على المنافسة، فاليونان التي انهارت صادراتها السلعية والخدمية بسبب عدم تمكنها من المنافسة في الوقت الذي سعى سياسيوها للإفراط في الإنفاق الاجتماعي ودولة الرفاه استناداً إلى اقتصاد ألمانيا وفرنسا، استيقظت على إفلاس، ورفضت أوروبا إنقاذها إلا بشروط مذلة وضعت مستقبل اليونان السياسي والاقتصادي في يد ألمانيا، وقد تتبعها البرتغال وأرلندا وآخرون.
المثنى حجي
صحيفة الحياة اللندنية