“الناس يدفعون ثمن ما يفعلون، وأكثر من ذلك، ثمن ما سمحوا لأنفسهم بأن يصبحوا عليه. وهم يدفعون ثمن ذلك ببساطة: بالحياة التي يعيشونها”. هذه الكلمات من مقال بحجم كتاب لجيمس بولدوين بعنوان “لا اسم في الشارع” عن العرق في أميركا، تم اقتباسها كعبارة توقيعية لرواية دوروثي أليسون بعنوان “الأنذال خارج كارولينا” (1992)، التي أصبحت الآن رواية كلاسيكية عن التركيبة السكانية التي يشار لها بالعامية بـ”النفايات البيضاء”: الطبقة العاملة البيضاء من الفقراء والمحرومين.
بنظريته التي تقول إن العدالة خلقت لتتجسد في وعبر الحياة التي نعيشها، كان بولدوين يشير إلى مأزق سياسة العرق في الحلم الأميركي، ومواجهة كل التناقضات التي ولّدها هذا الإرث مباشرة. وكانت أليسون تفكر في فقر الطبقة العاملة البيضاء وعدم تمكينها المنهجي، والاستثناءات التي تواجهها، والتي تتجاوز بكثير لحظة حدوثها. وعلى الرغم من أنهما يسردان قصصهم بطرق مختلفة، فإن بولدوين وأليسون يريدان إيضاح الفكرة نفسها: إن للجرائم تداعيات. وعندما نجعل الآخرين يعانون، فإن الأمر ينتهي بنا وقد أصبحنا نشعر نحن بالألم.
لم يتم الإعراب في أي لحظة من التاريخ عن الأثر المرتد على صاحبه للأخلاقيات اليومية بشكل أكثر كمالاً أو بلا رحكة، أكثر مما حدث في محصلة انتخابات الرئيس الأميركي الخامس والأربعين للولايات المتحدة. لقد جعلت أميركا أعدادا لا تعد ولا تحصى من الشعوب الأخرى حول العالم تعاني. وقد حولت الديمقراطيات إلى دكتاتوريات بمنهجية تتعدى كثيراً ما فعل أي بلد آخر. وما تزال الذريعة الوحيدة لأفعالها هي أجندة “تغيير النظام” لصالح “الديمقراطية العالمية”، التي لم يسبق للحزب الجمهوري ولا الحزب الديمقراطي أن يشككوا فيها علانية أبداً. وفي 8 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، تم فضح هذه الأجندة علناً بما وضعت من أجله: النفاق المتأصل الذي ساهم في إفقار أغلبية الأميركيين، بينما زاد من ثراء الطبقة الحاكمة.
في ليبيا وسورية والعراق وأوكرانيا وأفغانستان وهاييتي والسلفادور وهندوراس ونيكاراغوا وكوبا وتشيلي، استبدلت الولايات المتحدة القادة المنتخبين شعبياً بدمى طيعة من الذين المحفّزين لرفض أرادة شعوبهم التي يحكمونها. وقد تعلمت المزيد عن هذه الفصول الغامضة من تاريخ بلدي الخاص في غرفة فندق إيراني، حيث كنت أتابع مذيعاً تلفزيونياً يعرض شرائح أفلام لأكثر من ستين بلداً كانت الولايات المتحدة قد أرست ركائز تغيير النظم فيها، سراً أو بالقوة، أكثر مما تعلمت في أي غرفة صفية في مدرسة ثانوية أو جامعة في أميركا.
خلال معظم حالات تغيير النظام التي رتبتها عنوة حول العالم، نجحت الولايات المتحدة بشكل كبير في قمع الحريات في الخارج، بينما تعلي من شأن الحرية في الوطن. وكان المواطنون في البلدان المتأثرة قد تعلموا منذ زمن طويل الشك في الادعاءات الأميركية بخدمة مصلحة السلام العالمي، كما أظهر الفيلم الذي عرضه التلفزيون الإيراني. وفي خارج الولايات المتحدة، ثمة قلة يصدقون الادعاءات الأميركية بالتفوق الأخلاقي. ومع ذلك، وقبل العام 2016، رأى معظم مواطنيها أن الولايات المتحدة قوة خير في العالم.
في أعقاب 8 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي من العام 2016، لم تعد واجهة ترويج الديمقراطية تنحصر في الوسط الذي يرعى هذه الأيديولوجية. بدأ مواطنو الولايات المتحدة يتجرعون دواءهم الخاص. فالاستبدادية التي كانوا قد صدروها منذ بداية الحرب الباردة أعيدت إليهم إلى الوطن فجأة وعلى نحو غير مسبوق. وهي تنفجر الآن في وجوهنا من خلال الهجمات العرقية على أولاد المدارس، وانتشار شعار النازية في أنحاء البلاد، والشتم والتهديد بالقتل وجو الكراهية العام. لم يعد باستطاعتنا إنكار أن ما نفعله في الخارج يشكل ويؤطر ما نختبره في الوطن.
عندما أدركت أولاً حجم الكارثة التي حلت بالعالم يوم 8 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، اعتذرت لكل شخص أعرفه. لكل أصدقائي في إيران الذين قد يتحملون المزيد من العقوبات كنتيجة لكذب تاجر متعود على الكذب. لكل زملائي البريطانيين الذين يترتب عليهم تحمل العديد من الأعوام الأخرى من المقابلات الحمقاء والتراجع التدريجي للصحافة الحرة. اعتذرت للعالم، ولبلدي، عن ناخبيه، وعن تواطئي مع نظام فاسد يصادف أنه يتزامن مع ميلاد الجمهورية الأميركية.
إن السياسة الأميركية الخارجية الدنيئة قديمة قدم فكرة القدر المحتوم التي دفعت الوسع الأميركي في الغرب الأميركي. كانت الحرب المكسيكية-الأميركية (1846-1848) عملية قضم أخرى للأرض. وكانت الغاية من الحرب الاسبانية-الأميركية (1898) هي ضم الفلبين، وهي أرض لم تنتم أبداً إلى الولايات المتحدة الأميركية. وقاد هذا الضم العنيف إلى اندلاع الحرب الفلبينية الأميركية التي استمرت في الأعوام 1899-1902. وخلال هذه الفترة نفسها، في العام 1898، تم ضم هاواي إلى الإمبراطورية الأميركية، من دون رضا وموافقة شعبها. وقد تصرفت الولايات المتحدة دائماً كقوة استعمارية، بينما كانت في داخل حدودها تعامل مواطنيها البيض بشكل مختلف.
عندما يتم تدريس التاريخ الأميركي في المدارس العامة، يتم حزم تناقضاته في سرد يعكس تنوع وتشكيل تاريخ البلد متعدد الثقافات. وبسبب تعليمي غير المتوازن، استغرق الأمر مني بعض الوقت قبل أن أستطيع إدراك أن الرعب الحقيقي ليوم 8 تشرين الثاني (نوفمبر) 2016 لم يكن ما يعنيه لأميركا على المسرح العالمي، وإنما ما عناه هناك في الوطن. وللمرة الأولى في التاريخ الأميركي الحديث، سيتم اختبار الأثر الأكبر للسياسة الخارجية الأميركية في داخل الولايات المتحدة، في الفضاء المحلي الذي جرى عزله على مدى العديد من الأجيال وحمايته من المعاناة التي كان يوقعها بالعالم.
لأول مرة، أصبح الشعب الأميركي نفسه هو الضحية الأكثر مباشرة للحماقة والإجحاف الأميركيين. لطالما كانت الأقليات والملونون أهدافاً لسياسات التفرقة في داخل الولايات المتحدة. وبعد تصويت 8 تشرين الثاني (نوفمبر)، تمت شرعنة هذه الأشكال من التمييز ليجري استخدامها ضد الجميع، من النساء إلى اللاتينيين إلى المعاقين والمثليين.
تشكل هذه الحالة نقطة انعطاف لتاريخ العالم. فلعدة أجيال، انتخب المقترعون الأميركيون ساسة من طائفة عريضة من القناعات السياسية، بينما غضوا الطرف عن إسقاط الديمقراطيات، والدكتاتوريات المنصبة بالإكراه، والضرائب الجزائية والعقوبات والغرامات الأخرى التي تفرض من جانب واحد فيما كان العالم ينظر بصمت مطبق أو يلتفت إلى الناحية الأخرى.
وعلى الرغم من أن هذه الكوارث هزت ضمير الأكثر انفتاحا دوليا من بين الناخبين الأميركيين، فإنه لم يترتب على الناخبين مواجهة تداعيات أفعالنا في الخارج. وعمد المقترعون إلى غض الطرف عن معاناة الإيرانيين والعراقيين والأفغان والليبيين ومواطني هندوراس، لأن تلك التداعيات لا تحدث في الأراضي الأميركية.
لقد انتخب نفس النظام السياسي الذي جلب أول رئيس أميركي من أصل إفريقي إلى السلطة، انتخب شخصا عنصريا معاديا للنساء ومتعصبا دينيا لنفس المنصب بعد ثمانية أعوام. وفي الحقيقة، وفي العديد من الولايات المتأرجحة التي تحدد محصلة الانتخابات، كان نفس الناس الذين صوتوا لصالح أوباما هم الذين صوتوا لترامب. وكان الأمر وكأنه ليس هناك فرق حقيقي من، وجهة نظر الناخب الأميركي المحروم، بين عنصري متعصب دينيا وبين أميركي من أصل أفريقي يعد بالتغيير، طالما أنهما كلاهما يعدان بإصلاح الوضع القائم.
القول بأن هؤلاء الناخبين محقون في عدم إدراك أي اختلاف، يعني الدفاع عن العنصرية. لكن الفشل في التعلم من قرارهم وضع كل اعتبار أخلاقي جانباً عندما يواجهون باختناق اقتصادي، سيعني الاختباء من الحقيقة والواقع. وقالت لي زميلة مصرية، منى بيكر: “ثمة شيء واحد جيد قد يأتي من هذه الانتخابات”. ولكونها أستاذة في جامعة مانشستر، صنعت بيكر سمعتها كعالمة في دراسات الترجمة، وأحدثها دراسة لمساهمة الناشطين في الربيع العربي. ولا ترى بيكر أي اختلاف بين كلينتون وترامب، وتنظر إلى كليهما على أنهما مهندسان للوحشية العالمية. واختتمت نقاشنا بالقول: “النظام مكسور، ولا يمكن إصلاحه عبر انتخابات. الوضع القائم يجب أن ينتهي”.
هل ستساعد رئاسة ترامب في جلب نهاية للوضع القائم؟ مهما يحدث، فإن من المؤكد أنه سيكون للأميركيين قريباً قدر أكبر مما يتقاسمونه مع الإيرانيين والروس وشعوب أخرى تعيش في ظل أنظمة استبدادية اعتادت عليها. وللمرة الأولى، لن تتأسس الأرضية المشتركة بين الولايات المتحدة وباقي العالم على ما فعلناه بالآخرين فقط، أو على تواطؤنا المتواصل في استدامة حكوماتهم القمعية، وإنما ستتأسس على ما فعلناه لأنفسنا.
نستطيع الآن البدء في تعلم دروس في الديمقراطية من البلدان العديدة حيث هندست الحكومة الأميركية انقلابات بدلاً من تصدير الأيديولوجيات الأميركية إلى الخارج، على شكل بنادق وأسلحة. وليس هذا هو الدرس الذي أحببت أن آخذه معي إلى البيت من يوم الانتخابات، لكنه درس على أي حال. ولأنه مهين ووضيع بالتحديد، سوف يثبت يوم 8 تشرين الثاني (نوفمبر) أنه تعليم صحي ومفيد عن حدود الديمقراطية الأميركية.
ربيكا غولد
صحيفة الغد