رحل آخر الشيوعيين الملتزمين الذين شغلوا الدنيا بنضالهم الصاخب، وشجاعتهم القوية، إبّان القرن العشرين. رحل الزعيم فيديل كاسترو الذي حكم نحو خمسين سنة بلداً صغيراً مثل كوبا، لكنه كان مثل قطٍّ بري يناطح فيلاً كبيراً، إذ جابه أميركا القريبة منه، ولم يخش من أنيابها، ولا يفصله عنها إلا خليج الخنازير. حكم بين 1959 و2008، وفرض هيمنته على بلاده، مطبقاً نظاماً شمولياً صارماً. وتضم كوبا أكثر من 11 مليون نسمة، وهي أكبر جزر الأنتيل جنوبي الولايات المتحدة، وأُلحقت بالملكية الإسبانية حتى حرب الاستقلال 1895-1898 بدعم أميركي، فأنهت معاهدة باريس 1898 الهيمنة الإسبانية، وحصل استقلالها النهائي في العام 1901.
أطيح في 1/1/ 1959، فولغينسو باتيستا، زعيم كوبا، الذي عُرف بانحرافاته وديكتاتوريته منذ 1952، إثر حركة تمرّد قامت بها مجموعة باربودوس (أصحاب اللحى) بقيادة كاسترو. فنجح ورفاقه في تأسيس جمهورية اشتراكية، بالتحالف مع رفيقه غيفارا. ورسخ علاقاته إبّان الحرب الباردة بالاتحاد السوفييتي، فقطعت أميركا علاقاتها مع كوبا في 1961، وفشلت محاولتها إنزال قواتٍ معادية لكاسترو في خليج الخنازير. إثر اندلاع أزمة خطيرة باكتشاف وجود صواريخ سوفييتية في كوبا. وكاد كاسترو يفجّر حرباً نووية في العالم، في عهدي الرئيس الأميركي جون كيندي ورئيس مجلس السوفييت الأعلى نيكيتا خروشوف. تأسس حزبٌ وحيد، هو الحزب الشيوعي الكوبي في 1965، وأصبح لكوبا دستور عام 1976.
بقي كاسترو يناضل ثلاثين سنة حتى انهيار الاتحاد السوفييتي 1990، فارتهنت كوبا لشريكتها فنزويلا تجارياً وبترولياً، مع تحدّيات اقتصادية قاسية واجهها الكوبيون. ولكن، ما طبيعة هذه الزعامة الكاريزمية لكاسترو؟ آمن هذا الثوري المتمرّد بالحدود الدنيا لمعيشة أبناء شعبه في دولته الفقيرة، وبنى بإمكاناتها البسيطة قاعدة صحيّة لأبناء شعبه، ولم يرض أبداً أن تكون كوبا مزرعةً أميركية أبداً، وبالقدر الذي آمن به المعجبون به في العالم. بقي مناضلاً صلباً وملتزماً بأيديولوجيته التي لم يتنازل عن حرفٍ منها. ويؤكد معارضوه، منذ زمن طويل، أن كوبا لو
توفّر لها قائد سياسي غيره غلّب سياساته على مؤدلجاته، لاستغلّ مكانتها الجغرافية القريبة من أميركا، وجعلها بلداً متقدماً تابعاً لها ولمساعداتها، بل لو مُنح مصالح أميركية على أرضه، لعاش كل الكوبيين عيشة رخاءٍ وحرياتٍ، بدل الذي فعله بهم كاسترو الذي أوهم نفسه ورفاقه وشعبه بأكذوبة عاشتها كلّ الأنظمة الشمولية والتوتاليتارية والديكتاتورية ممن أغلقوا الأبواب أمام شعوبهم عن الحياة السياسية الغربية، فتأخرت شعوبهم، كما يقولون، بل وفرّ أغلب المعارضين نحو أميركا. ويتابع معارضوه قائلين إن انغلاق كوبا كان على غرار ما حدث في ألبانيا وألمانيا الشرقية وكوريا الشمالية، وغيرها من الأنظمة الحديدية. ولكن، فات على هؤلاء الموقع الجغرافي لكوبا، وأن كاسترو امتلك حريّة القرار، وحفظ بلاده من تدخّلات أميركية، إذ أصرّ على أن لا يكون ذيلاً لها أبداً.
كان كاسترو قد نجح، في شبابه، في أن يخلّص كوبا من نظام باتيستا المتخلّف، لكنه بدّل الاستبداد بالشمولية، وبدل الضياع بالانغلاق، وزاد في جعل الشعب يعتمد على نفسه في الحفاظ على ثروته، والعيش من منتجاته، فبقي الشعب فقيراً، وبقيت أدواته ومعيشته بسيطة، وبقيت حتى السيارات التي تمشي في شوارع هافانا مهترئة، وهي من خمسينيات القرن العشرين. وإذا كان كاسترو قد احتكر حرية شعبه، فقد أحدثت سياساته ردود فعل قوية ضده منذ خمسين سنة، لكنه بقي مثيراً وصامداً وقوياً لا يتزعزع قيد أنملة عن المبادئ التي آمن بها بعد أن اعتنقها، وبقي وفياً لها حتى النهاية. إذ آمن بأنّ الحريات لا تُمنح، بل تُنتزع انتزاعاً، ومن الخطأ استجداء الحرية من الأميركيين. لم يتنازل عن السلطة أبداً حتى وهو خرف ضنين، وعندما تنازل عنها، منحها لأخيه راؤول كاسترو، ليس كمن يرث الأخ أخاه، بل لأنه يثق ثقةً عمياء في أخيه، لكي يحافظ على الإرث الكاستروي، وخوفاً من أن تتحوّل كوبا إلى حقل دواجن يتوارثها الأميركيون، وقد ضربوا بتلك الشعارات المزيفة التي روّجوها، وتصارخوا من أجلها مع بقية من ناصروهم في العالم، عرض الحائط. وبقي كاسترو طوال حياته ثائراً ينتقد كل الثوريين المنحرفين عن مبادئهم ومناهجهم، ويعارض تحولاتهم من ثوار إلى مستبدين، ومن مناضلين إلى ذيول للأميركيين.
بقي كاسترو الذي علّم شعبه كيف يعيش من موارده ثائراً على الميوعة السياسية لزعماء انقلابيين، تصنّعهم دوائر مخابرات إمبريالية، لهم هشاشتهم، بحيث غدت عدة بلدان يحكمها قطّاع طرق وأولاد شوارع وعمال غير فنيين وضباط ثكنات خونة من أنصاف المجانين، وكلهم جاؤوا معه زمنياً باسم الثورة والثوريين والثوار الأحرار، وروّجوا شعارات راديكالية، فكانوا فجيعة على شعوبهم التي لم تزل تعاني من استبداداتهم وديكتاتورياتهم، وقراراتهم الهوجاء، وشعاراتهم الجنونية البلهاء، وسياساتهم التي مارسوها بالحديد والنار، خصوصاً من الذين أعجبوا إعجاباً منقطع النظير بتجارب كاسترو وستالين وماوتسي تونغ وكيم إيل سونغ وغيرهم، لكن هؤلاء شيء وأولئك أشياء ومخلوقات أخرى.
برحيل الرفيق كاسترو، تكون آخر القلاع الشيوعية (مع كوريا الشمالية) في حالة احتضار أمام حركة (وعجلة وقانون) التاريخ الذي يحتّم انتصار ما سميت الليبرالية الجديدة، فالتاريخ انتهى مع الحكومات الأيديولوجية والشمولية، بحيث عادت الاستبدادية والنماذج العسكرية والعائلية والدينية والطائفية باسم “الديمقراطية” كالتي تعيش اليوم في بلدانٍ متفرقة، لا تمت للثورة
الحقيقية بأيّ شيء، وأن الأنظمة المهزوزة لابد أن تغمرها أعاصير السياسات الأميركية، آجلاً أم عاجلاً، باسم الحريات والديمقراطية، كونها تخوض معارك خاسرة أمام قيم التقدم والتنوير والحداثة الحقيقية التي لا تقودها إلا الثورات الحقيقية، وهي أنظمة موبوءة، صنعها الآخرون، لابد أن تشهد نهايتها المحتومة في مزبلة التاريخ. ولا عجب أن نجد الديكتاتوريات الصغيرة والمقلدة في بعض بلداننا العربية وشخوصها ممن كان لديهم إعجاب واقتداء بكاسترو وستالين وكيم إيل سونغ وماوتسي تونغ، لكنهم سقطوا سريعاً، كونهم أسّسوا أنظمة شمولية وعسكرتارية وديكتاتورية في التاريخ الحديث والمعاصر. ولكن، بموت الرئيس كاسترو اليوم، تكون آخر القلاع الثورية في العالم في طريق الانقراض، فهو آخر المتبقّين من زعماء العالم الذين امتلكوا كاريزما الانجذاب إبّان القرن العشرين. ولكن، على المؤرخ أن لا ينسى جهود كاسترو في بناء قاعدةٍ طبيةٍ متميزة في بلاده، وعنايته بالمعرفة والتعليم بشكل خاص.
منذ 2006، طلب فيديل كاسترو، بسبب مرضه، من شقيقه راؤول أن يحل بدله على رأس الدولة. فبدأ الأخ الرئيس الجديد إجراءات وإصلاحات تدريجية لكي يحسّن اقتصاد كوبا، وفتح الباب على خجل للمبادرات الخاصة والاستثمار الأجنبي، مع معزوفة الحفاظ على “مكاسب الاشتراكية”، في اقتصادٍ مترهّلٍ، لم يزل تحت هيمنة الدولة بنسبة 80%. وفي فبراير/شباط 2008، أصبح راؤول رسمياً رئيساً لكوبا، وفي أبريل/نيسان 2011 أصبح راؤول على رأس الحزب الشيوعي الكوبي، إثر تخلّي فيديل عن منصبه، وأعلن عن تقارب تاريخي بين كوبا والولايات المتحدة نهاية 2014، وطي صفحة نصف قرن من العزلة، فأعيدت العلاقات في يوليو/تموز 2015. وفي مارس/آذار 2016، قام أوباما بالزيارة الأولى لرئيس أميركي لكوبا منذ ثورة كاسترو. وتعزّز تصدير الخدمات (الطبية خصوصاً) مصدراً أول للدخل من العملات الأجنبية لكوبا، مع نحو 8 مليارات دولار سنوياً، ثم السياحة التي تدر 2.8 مليار دولار. وبحسب التوقعات الحكومية، لن تزيد نسبة النمو التي بلغت 4 % في 2015 عن 2% في 2016، ما يعني أن كوبا تعاني إزاء تحديات وصعوبات كبيرة.
سيسجّل التاريخ لكاسترو مواقفه، إيجابية كانت أم سلبية. ولكن، لا يمكن نكران ما تمتع به من كاريزما، شغلت اهتمام العالم كله في النصف الثاني من القرن العشرين.
سيّار جميل
صحيفة العربي الجديد