ثمة مسعى دائب، من قبل الأحزاب الطائفية الحاكمة في العراق، إلى إحكام الطوق على فكرتي المدنية والدولة في المجتمع والمؤسسة معا، ومحاولة القضاء عليهما ومغادرتهما إلى غير رجعة، وتأبيد عراق تتسيد فيه الطائفية والميليشياوية والعشائرية، صفة للمواطنة، كما درج عليه، منذ العام 2003، تاريخ احتلاله من قبل الولايات المتحدة الأميركية، التي بشرّت العالم، بتسويقها فكرة أن العراق سيكون أنموذجا للديمقراطية في المنطقة.
وحدهم ساسة العراق، بدعم وبرعاية أميركيين، افترضوا صيغة مغايرة، أو بالأحرى شديدة الغرابة، لهذه الديمقراطية المزعومة، والتي اتضحت ممارساتها، بدءا بتجذير الطائفية السياسية وتفعيل دورها بالقوة من خلال عنف الميليشيات، تلك التي أدّت الى تباغض واحتراب مذهبي، كادا يتطوران الى حرب أهلية. وتاليا في إشاعة غير مسبوقة لثقافة العشيرة وهيمنتها، مجتمعيا ورسميا، في المدن كافة، وبأثر تراجع لافت لدور القانون ومهمات القضاء. ألأمر الذي أدى بالعراق، مؤطرا بالفساد المالي والإداري، إلى أن يحتل، دائما، التراتبية الأخيرة، وفق تقارير صادرة من مؤسسات دولية، في مجالات تبدأ من تردي واقع التربية والتعليم والشأن الاقتصادي ولا تنتهي في الخدمات والصحة والأمن، وغيرها من مجالات كثيرة ومتعددة، وهو البلد الذي يحتفظ بواقع تصدير يصل إلى أكثر من 3.5 مليون برميل نفط يوميا.
إنهاء القراءة الأولى لقانون العشائر والقبائل العراقية، من قبل مجلس النواب، قبل أيام، لغرض المصادقة عليه، والذي جاء بعد إقرار قانون الحشد الشعبي، الذي شرعن وجود ونشاط الميليشيات المسلحة بكونها مؤسسة رديفة للجيش العراقي، مخالفا لنص المادة “9”، أولا، “ب”، من الدستور العراقي، المتعلقة بحظر“تكوين ميليشيات عسكرية خارج إطار القوات المسلحة”، يأتي قانون العشائر هذا، بذات التعاطي في ما يتعلق بتبرير ألأسباب الموجبة للتشريع، بطريقة غامضة وملتبسة وفضفاضة وملتوية، والاعتماد على إحدى مواد الدستور، والتي جاءت من ضمنها، “انسجاما مع أحكام الفقرة (ثانيا) من المادة (45) من الدستور التي تنص على أن تنهض الدولة بالقبائل والعشائر العراقية”، أو المساهمة في تطوير المجتمع ودعم دور القبائل والعشائر… ورص الصفوف ونبذ الطائفية والعنف”.
لم تنص المادة المذكورة على ضرورة تشريع قانون للعشائر، كما بين ذلك ناشطون عراقيون في عريضة إلكترونية على أحد المواقع المختصة بالجانب المجتمعي، والتي طالبوا بها رئيس الجمهورية بسحب القانون من مجلس النواب، لكونه يعيق تحول العراق إلى دولة مدنية، وهي الخطوة التي لا يجرؤ عليها الأخير، خشية أو مهادنة، جراء هيمنة الأحزاب الطائفية الحاكمة على القرار السياسي، الأمر الذي يحيل إلى تساؤلات شتى، منها، كيف لمثل هذا القانون، الذي تم إلغاؤه في العام 1959، واستخدمت فكرته من قبل النظام السياسي السابق، الذي جرّمه السياسيون الجدد، أن يساهم في تطوير المجتمع كما تم أيضاحه كسبب موجب للتشريع؟ في الوقت الذي يعاني فيه الواقع العراقي، راهنا، من تنّمر وتسلط القرار العشائري على المشهد المجتمعي الأهلي والمؤسساتي، حينا بإشاعة ظاهرة ما يسمى “مطلوب عشائريا”، على محلات تجارية، دور سكنية لمواطنين، عيادات أطباء، بعض مدارس، وغيرها، القائمة على ذريعة الثأر الشخصي، وحينا آخر باندلاع نزاعات عشائرية دامية، استخدمت فيها أسلحة خفيفة ومتوسطة، كما جرى في بعض محافظات الجنوب، عدا من تغوّل النفوذ العشائري وتأثيره في صناعة القرار السياسي، عبر تواطؤ معلن، في توجهات الأحزاب السياسية الحاكمة بدافعية انتماءاتها العشائرية.
لقد أشارت أولى فقرات القانون إلى تأسيس مجلس قبائل وعشائر العراق، يتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي والإداري، وله مجالس محلية في كافة مراكز المحافظات، وهو ما يشكل عبئا ماليا مضافا، أمام واقع اقتصادي تم تصنيفيه بكونه سلبيا، جراء سوء الوضع السياسي، التوترات الأمنية، الحرب ضد داعش، مع زيادة العجز في الناتج المحلي، أدى بالعراق إلى اقتراض مبالغ بمليارت الدولارات من الأسواق العالمية لسد العجز لديه.
هذا المجلس ستكون إحدى مهماته، كما ذكرت في القانون “إشاعة ثقافة بناء الدولة وفق الدستور”، وهي تبدو مهمة متخيلة، بل منافية لمبدأ الدولة والمواطنة، كون العشيرة هي من تساهم في إشاعة التثقيف للدولة وليس مؤسسات الأخيرة وقوانينها المدنية.
على الصعيد العملي، ليست ثمة حاجة إلى إصدار هكذا قانون، تسارع من أجله أعضاء مجلس النواب العراقي بقراءته لغرض تشريعه. ثمة قوانين كانت لها أهمية وضرورة أكثر، تلك التي تتعلق بمجالات تنموية، واقتصادية وتربوية وصحية، لإصلاح ما يمكن إصلاحه من مشكلات وأزمات ينوء البلد تحت وطأتها، ما تجعله على حافة الانهيار التام.
تكريس العرف القبلي والعشائري، الذي يختص حصرا بتقاليد سائدة في القرية والريف، بوصفه قانونا مدنيا، يستدعي مخاوف مشروعة، لما ستؤول إليه تلك الخيارات المجتمعية والسياسية، التي تفترضها شخصيات أو منظمات مجتمع مدني، طامحة إلى استعادة حقوق الدولة والمواطنة في صفاتها المتحضرة، أو في مناهضتها لسطوة الأحزاب السياسية الطائفية، سواء عبر حراك اجتماعي أو مطالبات تشريعية، والتي لابد من أنها ستواجه بتبريرات رافضة عديدة، سيكون أحدها، مخالفة العرف العشائري. مخاوف تضاهيها شكوك أخرى تتعلق بجعل قانون العشائر بديلا عن القانون العام، وفي الكثير من مفاصل الشأن العراقي، سواء ما يتعلق منها، بجوانب الأحوال المدنية، أو المعاملات وحقوق الإفراد، الحريات العامة، وحرية التعبير.
إقرار مثل هذا القانون، من قبل مجلس النواب، هو بمثابة إعادة إنتاج لسطوة أحزاب الإسلام السياسي الحاكمة، على مقدرات ومستقبل بلد ومجتمع، جعلت منهما أن يكونا مرتهنين للمجهول.