يكاد يكون الإجماع شاملاً، بين الفلسطينيين، على أن المرحلة المقبلة ستكون كارثية بمعايير عدة. فليس هناك مؤشر منطقي واحد، ولو ضئيل، يشير الى أن ما تم، خلال العشرين سنة الماضية، سيقـــود الى واقع أفــضل. فلقد نجح اتفاق أوسلو في إحداث تحول جذري وتــاريــخي ليس فــقط في مفاهيم الهويــة والوطن والسياسة والثقافة بعمومها، بل في تـحويـل التنـاقـض القائم بين الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلي الى تناقض بين الفلسطينيين أنفسهم.
بعد الانتفاضة الثانية وحصار إسرائيل الرئيس عرفات، اتضح وجود أيديولوجيا سياسية تتشكل، نسمّيها أيديــولــوجيــــا «القروض البنكية»، وستشتغل على إعادة بناء المجتمع الفلسطيني بما يجعله براغماتياً، بالمعنى السلبي، يتمحور وجوده حول الحصول على «القروض البنكية» وطريقة سدادها، وتمضية باقي الوقت في انتظار الهبات التي تقدمها الدول والجهات المانحة، والتي من دونها لن تستطيع الحكومة إنزال الرواتب في «الصراف الآلي» آخر الشهر.
لم يكن الفلسطينيون في حاجة الى «عرافة دلفي» الإغريقية لرؤية المستقبل، لكن مرحلة ما بعد عرفات بدت، للبعض، كصفحة لم يتسنّ لهم قراءتها في ملحق سري من ملاحق الاتفاق العلني.
فمرحلة ما بعد عرفات هي حيث أمسكت البنوك الكبرى بمقادير الفلسطينيين وأعناقهم بقبضة من حديد، مبشّرة بقدوم اقتصاد نيوليبرالي الى مجتمع مقهور، يعيش تحت الاحتلال ومحاصر بالمستوطنات. كانت قروض البنوك مغرية جداً بفضل طبيعة التسهيلات التي لا تملك حتى الدول الأغنى في العالم قدرة على تقديمها لرعاياها. وبينما كانت الفقاعة الاقتصادية والعقارية تتضخم، جرت على قدم وساق أكبر عملية مصادرة وبناء للمستوطنات في تاريخ فلسطين كله.
ولأن إعادة تشكيل المجتمع الفلسطيني، على ما استلزمته الديناميات التي أطلقها أوسلو في ما بعد عرفات، استدعت تغيير البنية العميقة للثقافة نفسها، تزامن «رهن» الإرادة الفردية والمجتمعية لدى البنوك تلك مع مساريين اثنين: تسطيح المؤسسة وتجريف السياسة.
وتمثل تسطيح المؤسسة في تخليق بيروقراطية إدارية فردية مترهلة، تتطابق مع ما يسميه الفلسطينيون «الإقطاعية» الإدارية، حيت يقوم كل وزير ببناء، بل بـ»تفصيل»، المؤسسة التي يرأسها على «مقاسه» ومزاجه.
أما تجريف السياسة فكان نتاجاً أوتوماتيكياً لما سبق. وإذ انحصر التجريف، في بداياته، في قمة الهرم السياسي وبعض المفاصل الأساسية، فقد امتد لاحقاً الى كل بنى السلطة وحركة فتح نفسها، المتماهية والمتداخلة في السلطة، بل طاول الجامعات والتشكيلات الشعـــبيـــة والمنظمات اللاحـــكوميــــة ومؤسسات المجتمع المدني وغيرها، ما أسفر عن تشكّل منظومة سلطوية أقلوية تختلط فيها الطبقة الاجتماعية بالمال السياسي بالمنصب الحكومي بالجاه.
ما كان لأيديولوجيا القروض البنكية تلك، والتي حلّت محل أيديولوجيا التحرر الوطني، أن تتشكل إلا بعدما ترابطت بنيوياً مع المسارين السابقين، ما أفضى الى دفع الفلسطينيين الى التساؤل عن ماهية «الدولة» التي يُراد لهم بناؤها، وضرورتها ومعناها وجدواها؟ وما مقاصد السياسة إذا لم تكن محمية بحرية الرأي ومسيّجة بحق الاختلاف؟ وهل في الوسع الاشتغال على بناء «كيان سياسي» فيما يُهدر مفهوم «المؤسسة»؟ ولمصلحة من تصبّ عملية توسيع الفوارق الطبقية وتعميق تناقضاتها داخل المجتمع؟
ليس في وسع أحد القطع بأن مهندسي الاتفاق كانوا على دراية بأن في بطنه، أو في ملاحقه، انضوت عناصر التحولات الجذرية والتاريخية تلك. لكنْ في المقابل، ليس في وسع أحد إنكار أنهم لم يكونوا على دراية بأن الاتفاق سيضع القاطرة على السكة التى توصل الى تلك المحطة.
أسامة مصالحة
صحيفة المصالحة