هناك طموح قطري إلى تصدير الغاز عبر الأنابيب نحو أوروبا؛ وهنا تكمن أهمية تركيا بموقعها الجغرافي وكونها دولة صناعية وسوقا بحاجة إلى مصادر الطاقة، إضافة إلى امتلاكها الطاقات البشرية والعلمية الكبيرة التي يمكن أن تساعد في إيصال الطاقة إلى أوروبا عبر حدودها.
تركيا عقدة الحل في المعادلة، خصوصا وأنها تضغط لتكون جزءا من الاتحاد الأوروبي، وورقة الطاقة هي التي تضغط بها على الأوروبيين. فأردوغان يريد من أوروبا أن تختار بين إسقاط الأسد ومساعدته في مشروع الطاقة أو يغرقها بالمهاجرين والإرهابيين، وتركيا متحمسة جدا للإمساك بالأمن الأوروبي في الطاقة وفرض عضوية البلاد في الاتحاد الأوروبي.
أردوغان بيده مشروع الطاقة وهذه ورقة كبيرة بيد رجل واحد، لهذا كانت محاولة الانقلاب التركي الفاشلة لأن أردوغان يحاول الاستيلاء على مصر وسوريا والتدخل في سياسات المنطقة من خلال مشروع الإخوان المسلمين. هناك خط جاهز في تركيا يقابله خط أنابيب الغاز العربي الذي أنشئ أساسا لإيصال الغاز المصري إلى المناطق العربية من شمال سيناء إلى جنوب الأردن، ثم إلى حمص في سوريا، حيث يتفرع عنه خطان أحدهما إلى بانياس على الساحل السوري وآخر إلى مدينة طرابلس في شمال لبنان.
في عام 2008 تم ربط خط الأنابيب العربي بخط فرعي إلى عسقلان لتصدير الغاز المصري إلى إسرائيل، وهكذا لم يتبق سوى ربط خط الغاز العربي بشبكة الأنابيب التركية الجاهزة أساسا، والسوق التركية مستعدة لشراء هذا الغاز وتصديره إلى أوروبا.
الكفة تميل إلى إيران عالميا بسبب الغاز الطبيعي وتحالفاتها الدولية، التي دفعت الرئيس دونالد ترامب أن ينأى بنفسه عن صراع مكلف لصالح أوروبا مع الروس والصينيين
دخلت شركة قطر للغاز، التي هي أكبر شركة منتجة للغاز الطبيعي المسال في العالم، على خط التنافس العالمي والسياسي؛ فثلث غاز الدوحة يذهب إلى اليابان، وثلث إلى أوروبا، والثلث المتبقي يذهب إلى الولايات المتحدة.
توقفت قطر عن تصدير الغاز الطبيعي إلى الولايات المتحدة بسبب اكتشاف الغاز الصخري، وحوّلت تلك الحصة إلى السوق الأوروبية. وأعلنت صراحة أنها تسعى لمنافسة العملاق الروسي؛ ومن هنا بدأت المشكلة. فقد تراجعت المبيعات الروسية للغاز بنسبة عشرة بالمئة بسبب قطر.
كسر احتكار روسيا
وجدت دول الاتحاد الأوروبي في ذلك نوعا من كسر الاحتكار الروسي للطاقة. وتقول إيران إن قطر ليس لها وزن لأنها لا تملك استقلالية لإدارة الطاقة. والروس يقولون إن قطر هي شركة إكسون-موبيل الأميركية العملاقة التي تملكها عائلة روكفلر، وروسيا دولة عظمى لها علاقات صداقة قوية مع العالم، وشركة إكسون- موبيل مساهمة في الشركة الروسية للطاقة وتشارك في الحرب العالمية على الغاز.
روسيا والجزائر عندهما شكوك بسياسة قطر والتزامها بالأسعار؛ فهي تبيع بسعر منخفض الأمر الذي اعتبرته روسيا والجزائر نوعا من الحرب. وإذا كانت قطر تمتلك القدرة على خفض الأسعار رغم أنها تعتمد على منشآت الغاز المسال والشحن في البواخر، فماذا ستفعل لو امتلكت خطوط غاز مشابهة لروسيا نحو أوروبا؟
شهدت العاصمة السورية عام 2009 قمة فرنسية تركية قطرية سورية. وفي ما بعد كشفت القيادة السورية أن الضيوف عرضوا على الرئيس بشار الأسد إقامة خط أنابيب عبر الأراضي السورية لنقل الغاز القطري إلى تركيا ومنها إلى أوروبا، لحرمان روسيا من أي إمكانية للتأثير في سوق الغاز العالمي، أو فرض إرادة سياسية للتحكم بأوروبا.
كان الروس واضحين بأن القطريين لا يجب أن يمدّوا خط غازهم عبر سوريا، ذلك الخط الذي من المفترض أن يبدأ من قطر عبر الأراضي السعودية والأردنية حتى سوريا. وهنا قال بشار الأسد “لا” ومقابل ذلك وقعت سوريا عقدا مع إيران لمد خط أنابيب بطول ألف وخمسمئة كيلومتر من إيران إلى سوريا عبر العراق عام 2011 لنقل الغاز الإيراني إلى أوروبا عبر المتوسط من مدينة حمص نحو لبنان في حال لم تتمكن إيران من رفع العقوبات المفروضة عليها.
هناك تناغم استراتيجي عالمي بين روسيا وإيران والعراق وسوريا ولبنان ومؤخرا مصر والجزائر بخصوص مستقبل الطاقة وعملية الإنتاج والتنقيب والتخزين والتصنيع والتصدير، انعكس كله حاليا على الأزمة السورية.
كانت إيران تعمل على شق خط أنابيب آخر من شرقها إلى باكستان والهند. وقد عرضت الصين على باكستان المساعدة في إقامته على أراضيها، وأن الخط المذكور سيصل لاحقا إلى الصين، وهناك محادثات روسية وصينية مع إيران للتحكم بكمية إنتاجها إلى أوروبا.
تعلم طهران أن أرضها تحتوي على احتياطي هائل من الغاز وأن أوروبا أهم سوق عالمية ولكن حتى اليوم لم تتحرك إيران باتجاه هذا السوق ولم تتضارب مصالحها مع روسيا. وهذا يفسر زيارة فلاديمير بوتين أواخر العام الماضي إلى المرشد الأعلى الإيراني السيد علي خامنئي حاملا معه نسخة روسية قديمة من القرآن الكريم تعبيرا عن الصداقة والاحترام.
إن الاكتشافات الأخيرة عن حجم الغاز في الدلتا المصرية وسيناء وفي إسرائيل ولبنان والعراق وسوريا قد قلبت المعادلة تماما، ووضعت الكثير من الدول في طموح منافس لقطر بالمنطقة.
تطمح الدوحة إلى سقوط الأسد ومدّ الغاز سريعا نحو أوروبا، مع وقف التنقيب عن هذه الثروة في الدول العربية من خلال إشعال الحرائق فيها. وقد لاحظنا الهجوم الإعلامي الأخير على الجيش المصري والتحريض ضده. وهناك أطراف تسعى دوما إلى استخدام الإسلام السياسي لأغراض اقتصادية، تماما كما حدث في ليبيا حيث يجري تخريب البلاد لمنعها من المشاركة في السوق النفطية.
من الممكن جدا أن تفشل قطر وتنجح المجموعة الشيعية بقيادة إيران، في ضخ الغاز عبر المتوسط أو تركيا بعد رفع العقوبات. نحن نرى أردوغان بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة قد تغير كثيرا وبات أقرب إلى روسيا وقد يدخل في عملية اقتصادية تضخ الغاز المصري والإيراني والإسرائيلي والعراقي والسوري واللبناني إلى أوروبا. كل شيء جائز؛ طالما كان حديث الرئيس الروسي والصيني في لقائهما الأخير حول إيران، فهذا يعني أنها لم تعد دولة يمكن قصفها أو المبالغة في عقابها.
الكفة تميل إلى إيران عالميا بسبب الغاز الطبيعي وتحالفاتها الدولية، التي دفعت الرئيس دونالد ترامب أن ينأى بنفسه عن صراع مكلف لصالح أوروبا مع الروس والصينيين.
ما علاقة سنة العراق؟
في الحقيقة لا يهمني من هذا الموضوع العالمي سوى سنة العراق فهم أهلي وشعبي الذين زجت بهم قطر وتركيا في لعبة عالمية ظالمة باسم الدين والعقيدة وها هم يبادون في الموصل والجميع يتفرج. كل ما يهم أردوغان هو مدينة تلعفر التي تربط العراق بسوريا وتعتبر طريق السلاح والطاقة في الصراع الدائر، وها هو يحنث بوعده لسكان الموصل من أجل التدخل وإنقاذ الناس. لقد تم الزج بالدين في معركة ليست دينية أساسا. الإسلام السني خصوصا تعرض للتشويه كثيرا من خلال قادة مخادعين ورطوا شعبهم وهربوا إلى جهات مجهولة. والذين حرضوا في منصات الاعتصام العراقية اختفوا أو بايعوا الحكومة الشيعية وفرغ المشهد بأكمله للدواعش والإرهابيين. فهناك فضيحة أخلاقية كبيرة تفوح رائحتها اليوم.
الكل يعلم أن شيعة العراق وإيران لم يتذوقوا طعم ثرواتهم، فهم يعيشون في أرض غنية بالنفط والغاز والثروات، لكنهم استدرجوا إلى حرب طاحنة، وخضعت إيران لعقوبات، بينما غرق العراق في حصار اقتصادي من عام 1990 وحتى عام 2003.
لا إيران رأت الرفاه الاقتصادي ولا العراق تذوّق طعم الثروة. ومنذ الاحتلال حتى اليوم تطاحن العراقيون في حرب أهلية اقتلعت المجتمع السني خصوصا وأهدرت ثروات البلاد. ربما المستقبل الشيعي مختلف؟ ربما ثروات الغاز والبترول ستضمن لهم الرفاه في المستقبل؟
شيعة العراق وإيران لم يتذوقوا طعم ثرواتهم، استدرجوا إلى حرب طاحنة، وخضعت إيران لعقوبات، بينما غرق العراق في حصار اقتصادي
الشيعة ليسوا شعوبا غنية وشعوبا فقيرة، تقريبا المستوى المتوسط واحد، سواء في العراق أو إيران أو الخليج. كلهم تحكمهم ثقافة شعبية. ليس مصادفة أن قاسم سليماني يشرب الشاي مع الجنود ويأكل معهم بيضا وطماطم مقلية. وليس مصادفة أن كبير المفاوضين الإيرانيين في الملف النووي السيد سعيد جليلي يأتي مشيا إلى كربلاء في أربعين سيدنا الحسين. وليس مصادفة السيد أحمدي نجاد يجلس على التراب ويأكل مع عائلة لبنانية في الجنوب. السنة من جهة أخرى شعوب بأكملها ثرية، وشعوب بأكملها فقيرة، فأي نوع من العلاقة ستنشأ بينهما؟
يقول التاريخ في البداية كانت هناك تجارة على الساحل الأفريقي في المتوسط بين الأفارقة وبين الأوروبيين في القرن السابع عشر، ولكن بسبب الفارق الكبير في الثراء صار التجار الأفارقة يساهمون في الرقيق، يبيعون شعبهم وأطفالهم ونساءهم كرقيق للبيض. وهكذا كانوا يحملون سفن الأثرياء البيض بشعبهم مكبلا بالسلاسل.
هذه خطورة العلاقة بين الفقير والغني في حال انعدام القوانين والضوابط الإنسانية، وهذا بالضبط شكل العلاقة بين السوريين والقطريين، إنها علاقة بين أغنياء وفقراء. إن القادة السوريين المعارضين كالقادة السنة العراقيين يعلمون تماما بأنهم قد فقدوا التقدير، فقد باعوا شعبهم ونساءهم وأطفالهم ووطنهم. ملأوا سفن الموت برجالهم، وملأوا المخيمات بنسائهم وأطفالهم مقابل المال وتجارة السلاح والفساد.
لقد مرت على الشيعة ظروف صعبة في الماضي القريب ولكنهم أبدا لم يفعلوا بالبسطاء ما فعله الإسلام السني بأتباعه. إن تجارة الدم هذه لا مثيل لها في الانحطاط عبر كل العصور. إن الغاز القطري تحوّل إلى شيء مشابه للألماس الملوث بالدماء في السياسة الليبيرية.
أسعد البصري
صحيفة العرب اللندنية