الانتصار «التاريخي» على حلب، لروسيا وإيران و«حزب الله» والميليشيات الشيعية المتعددة البلدان، والنظام السوري، أعقبه مباشرة، وقبل اقتسام «قالب الحلوى السوري»، اغتيال السفير الروسي في أنقرة أندريه كارلوف، مما يؤكد أن الرئيس السوري بشار الأسد لن يستطيع قريبًا تنفس الصعداء والاسترخاء. اغتيال كارلوف إنذار لكثير من العمليات الانتقامية التي ستقع وفي دول كثيرة، أما بالنسبة إلى الأسد، فإن الحرب في سوريا لم تنتهِ بعد، ثم حتى بعد انتهائها وإذا تسنى للأسد أن يتربع في قصره في دمشق، كثيرة ستكون الأسباب التي تمنعه من الاطمئنان، بل تجعله يعيش خوفًا مدقعًا، خصوصًا أن رجل أمن نظامي هو من قتل كارلوف في أنقرة.
كذلك هناك كثير من المعارك تنتظر من الأسد خوضها إذا ما أراد تحقيق ما يردده بأنه سيسترجع السيطرة على كل سوريا «عسكريًا»، إذ بينما كان هو ومن يدعمه مشغولين بتدمير شرق حلب، استعاد تنظيم داعش مدينة تدمر. سقوط تدمر يشكل إحراجًا كبيرًا للروس الذين طبلوا كثيرًا عندما اقتحموها في شهر مارس (آذار) الماضي وجاءوا بأوركسترا سانت بيترسبرغ السيمفونية بقيادة المايسترو العالمي سيرغي غيرغييف، حيث قدموا مقطوعات موسيقية بحضور ضباط روس ومسؤولين سوريين فقط، ليؤكدوا بأن تدخل روسيا يهدف إلى إنقاذ سوريا من قبضة «داعش» الإرهابية.
لاحقًا ركزت القوات الروسية والسورية قوة نيرانها وبشكل كبير على جماعات المعارضة الأخرى، لا سيما تلك التي وصفها الغرب بأنها أكثر اعتدالاً، وتجنبت هذه القوات استهداف «داعش» أو الأراضي السورية التي يسيطر عليها.
بعد حلب، على نظام الأسد اتخاذ قرار عما سيفعل بتلك الأراضي، قد يتجاهل ذلك ويتحرك بقصد استعادة مناطق في أيدي «المعارضة الأخرى» في شمال غربي سوريا، ومعظمها في إدلب على طول الحدود التركية، فضلاً عن ريف جنوب دمشق، في حين أن الأكراد السوريين وآخرين الذين تدعمهم الولايات المتحدة يسيطرون على شمال شرقي وجنوب شرقي سوريا.
في الأيام الأولى كان السوريون يطالبون بالإصلاحات الديمقراطية، لكن الأسد – وعن عمد – حوّل الصراع إلى طائفي، وألّب السنّة على الشيعة والعكس بالعكس. وأصبحت الحرب في بلاده، كما أرادها، السنّة في مواجهة الشيعة.
وجاءت مشاركة إيران العميقة في تلك الحرب تماشيًا مع رؤيتها «الجهادية الشيعية» التي تنص على أن الثورة الإسلامية الإيرانية يجب أن تسيطر على العالم الإسلامي كله. ولهذا فإن هزيمة نظام الأسد على يد الثوار السنّة المدعومين من دول في الخليج العربي التي تعتبرها إيران بمثابة أعداء حقيقيين، كان من شأنها أن تمثل انتكاسة كبرى لأجندتها؛ إذ تدعو الآيديولوجيا الإيرانية كغطاء، إلى إبادة إسرائيل، أما الحقيقة فإنها تتطلع إلى إسقاط الحكومات السنية وتخويف الغرب ودفعه للامتثال إلى مخططاتها، ويستغل المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي وقوات «الحرس الثوري» الفوضى الراهنة في المنطقة، لتحقيق هذه الأهداف.
في سوريا حشدت إيران عشرات الآلاف من الميليشيات الشيعية من كل الشرق الأوسط الكبير، انضمت إلى مقاتلي «حزب الله» اللبناني لمحاربة المنظمات السنية والمساعدة في إنقاذ نظام الأسد.
الدخول إلى شرق حلب هو انتصار للتحالف الذي تقوده إيران، العابر للحدود، والذي يشكل نظام الأسد أحد عناصره.
الحرب في سوريا ليست حربًا أهلية حسب المقاييس المتعارف عليها، فبالإضافة إلى قوات النظام التي تقاتل الثوار السنّة، برز «حزب الله» الإيراني الدعم والولاء، والذي تحول إلى جيش شيعي إقليمي منتشر في أنحاء من لبنان وسوريا. إليهما انضمت الميليشيات الشيعية العراقية وتلك الأفغانية وأفراد من الجيش والحرس الثوري الإيراني وجميعهم تلقوا المساعدة من القوة الجوية الروسية الفتاكة. الهجمات البرية والجوية أدت إلى ارتكاب مذابح جماعية وتطهير عرقي لكثير من السنّة.
إن انتصار الجانب الشيعي في حلب يترجم على أنه انتصار لإيران، وهذا سوف يسبب المتاعب الجمة للمنطقة، والذي جعل الأمور أسوأ بكثير كان الطابع الذي أعطي للهزيمة، بالإضافة إلى الأساليب الوحشية التي لجأ إليها الأسد وحلفاؤه، والتي صدمت العالم وأثارت غضب السنّة بشكل خاص. ولذلك، لن يكون أمرًا مرفوضًا أو مستبعدًا، توقع التصعيد في تقديم الدعم للثوار السنّة.
في الوقت نفسه، فإن تكتيكات سوريا وروسيا وإيران و«حزب الله» ستزيد من تطرف المعارضة، وهذا يعني أن اليد العليا داخل جسم المعارضة ستكون للجماعات المتطرفة.
يدين الأسد في بقائه لإيران و«حزب الله»، وبالتالي لحماية هذا البقاء يجب أن يواصلا وجودهما العسكري في سوريا، ويتوسعا أكثر، ليؤكدا ما تباهى به ممثلو الحزب وسوريا بعد تدمير شرق حلب، إذ قال رئيس المجلس التنفيذي للحزب هاشم صفي الدين: «إن توازن القوى لن يغير سوريا فقط بل المنطقة بأسرها»، أما بثينة شعبان المستشارة السياسية للأسد فقالت: «إن صمود سوريا وبدعم من حلفائها غيّر النظامين الإقليمي والدولي».
إن «حزب الله» مثل نظام الأسد والجماعات المسلحة التي تدعمها إيران في العراق واليمن، هم جزء من محور إقليمي، تمكن من خداع صناع القرار في العالم، لجهة الاعتقاد بأنهم عامل استقرار لأنهم يقاتلون «التكفيريين»، لكن في واقع الأمر، فإن المتطرفين الشيعة مثل نظرائهم السنّة، إنما أكثر حذرًا من الناحية التكتيكية، وأذكى من ناحية الإعلام، ثم إنهم أفضل تسليحًا وأكثر تنظيمًا. وكان تقرير لفريق من وكالة «الأسوشييتد برس» سرد تفاصيل جولته في الجزء من حلب الذي يسيطر عليه النظام، حيث رأى لافتات دينية شيعية، خصوصًا في المناطق على الحافة الجنوبية للمدينة، وفي حي النيرب بالقرب من المطار الدولي المغلق شوهد مسلحون فلسطينيون مع عصائب حمراء حول الرأس مكتوب عليها «فيلق القدس» يوجهون حركة المرور.
ليست معروفة بعد تداعيات تدمير حلب وتهجير أهاليها على صعيد المنطقة أو العالم. وقد طمأن الكاتب الصحافي التركي مصطفى أكيول الأسد، بأن اغتيال السفير الروسي، ليس سراييفو 1914 (حيث بدأت الحرب العالمية الأولى)، «لأن أنقرة وموسكو لن تشنا الحرب، بل على العكس قد تتقاربان أكثر». ما لم يشر إليه أكيول احتمال مواجهة عسكرية تركية – إيرانية تتمة للحرب السنية – الشيعية التي أرادها الأسد.
من الجائز أن «يربح» الأسد الحرب، لكن المعارضة لحكمه لن تخبو أو تموت، أيضًا ستكون شرعيته أقل مما كانت عليها قبل الحرب. قد يخرج منتصرًا، لكن الكل يعرف أنه لولا مساعدة روسيا وإيران لكان انهزم. وضعه المقبل سيكون مشوهًا وملطخًا، أعداؤه سيكمنون في كل مكان، ثم إن «الدائنين» السياسيين والعسكريين سيحاولون قبض الثمن. سيكتشف أنه كان سلعة من السلع التي ستطرح في السوق. وما يجعل الأمور أسوأ هو أنه لا يمكن أن يعوّل وبشكل موثوق على أحد. حتى روسيا رغم تدخلها الشرس والموجه في الأساس ضد الغرب، كانت غامضة بعض الشيء تجاه التزامها بالأسد. وإذا أخذنا بالاعتبار أن الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب يريد بناء علاقات مع روسيا لكنه في الوقت نفسه يريد إضعاف إيران، فإن التخلي عن الأسد قد يكون أحد الخيارات التي تتفق حولها واشنطن وموسكو بعد مساعدة الأخيرة له بربح الحرب على بلاده. وما تقوم به موسكو من إدارة اللعبة بدعوة وزراء خارجية تركيا وإيران لبحث مستقبل سوريا! دليل آخر على أن ورقة الأسد تعلو يومًا وتنخفض يومًا آخر.
حتى لو تجاهل الأسد سقوط الضحايا، واعتبر مقتل نصف مليون سوري «ثمن الحرب»، وتهجير 12 مليونًا آخرين «مسألة فيها نظر»، فإن هؤلاء لن يسمحوا له بالخلود إلى النوم، سيهاجمونه حتى لو ابتلع كميات من الحبوب المنومة. الانتصار في هذه الحرب لم يقضِ على الأعداء. ستلاحق الأسد المخاوف من المجهول الذي ينتظره، كأس ماء لن يطفئ هذه المخاوف سيحتاج إلى شرب البحر ليطفئها، ومياه البحر مالحة!
هدى الحسيني
صحيفة الشرق الأوسط