فرضت التطورات التي شهدتها الأزمات الإقليمية المختلفة خلال الفترة الماضية تأثيرات مباشرة على الجهود التي تبذلها قوى إقليمية ودولية عديدة للوصول إلى تسويات سياسية لها. فقد ساهم اتساع نطاق الصراعات واستمرار الخلافات بين الفواعل السياسية المحلية في عرقلة معظم تلك الجهود، بشكل دفع تلك الأطراف إلى طرح “مبادرات بديلة” سواء لتقليص حدة تلك الخلافات وتخفيف الضغوط التي تفرضها هذه الصراعات على التوازنات الداخلية، أو للتعامل مع التوازنات الجديدة التي أنتجتها المواجهات الميدانية بين أطراف الصراع. ومع ذلك، فإن معظم تلك المبادرات ما زالت تواجه تحديات عديدة ربما تخصم من قدرتها على الاستمرار أو على تحقيق نتائج بارزة خلال المرحلة القادمة.
مؤشرات مختلفة:
تكشف مؤشرات عديدة عن تزايد الاتجاه نحو طرح مبادرات بديلة للتعامل مع المعطيات الجديدة التي فرضتها التطورات التي تشهدها الأزمات الإقليمية المختلفة، ويتمثل أبرزها في:
1- دعوة روسيا إلى إجراء مفاوضات جديدة بين النظام السورى وقوى المعارضة “المعتدلة” في كازاخستان في منتصف يناير 2017. فرغم إشارة تقارير عديدة إلى أن الأطراف التي تسعى إلى دعم إجراء تلك المفاوضات المحتملة تحاول تحقيق أهداف رئيسية ثلاثة، تتعلق بتوسيع نطاق وقف إطلاق النار ليشمل كافة أنحاء سوريا، مع استثناء العمليات العسكرية ضد تنظيم “داعش” و”جبهة فتح الشام”، ووضع مسودة مبادئ لتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2254، وتكريس الحل السياسي لتسوية الأزمة، إلا أن اتجاهات مختلفة اعتبرت أن الجهود التي تبذلها روسيا ما هى إلا محاولة جديدة لتفعيل مسار موازٍ أو مبادرة بديلة لتفريغ مبادئ “جنيف 1” من مضمونها، باعتبار أن تلك المبادئ لم تعد تتوافق مع المعطيات التي فرضتها التطورات الميدانية على الأرض، خاصة بعد إخراج مقاتلي المعارضة من مدينة حلب التي سارع النظام والميليشيات الحليفة إلى السيطرة عليها.
وتستند تلك الاتجاهات إلى مبررات عديدة لتأكيد ذلك، منها، على سبيل المثال، احتمال اتجاه روسيا إلى استبعاد المبعوث الأممي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا، الذى دعا إلى إجراء مفاوضات بين النظام والمعارضة في جنيف في فبراير 2017، من المشاركة فيها، إلى جانب إبعاد “الهيئة العليا للمفاوضات”، بما يزيد من احتمال اتجاه روسيا، بالتنسيق مع إيران والنظام السوري، إلى الالتفاف على تلك المبادئ، والعمل على تأسيس مرجعية جديدة للتسوية ترتبط بما يمكن أن تنتهي إليه المفاوضات في كازاخستان.
2- إعلان رئيس تيار “المستقبل” اللبناني سعد الحريري، في 20 أكتوبر 2016، عن تأييد ترشيح رئيس تكتل “التغيير والإصلاح” مؤسس “التيار الوطني الحر” العماد ميشال عون لرئاسة الجمهورية، بشكل اعتبرته قوى سياسية عديدة داخل لبنان، بمثابة تحول جذري سوف يساهم في إعادة صياغة التوازنات السياسية اللبنانية من جديد، والتي تأثرت بشكل مباشر بتطورات الصراع في سوريا، في ظل مشاركة حزب الله في الصراع إلى جانب النظام السوري. وتستند تلك القوى إلى أن ترشيح الحريري لعون يمثل “مبادرة بديلة” من جانبه، باعتبار أن مرشحه الأساسي، قبل إعلان تأييده لعون، كان زعيم تيار “المردة” النائب سليمان فرنجية.
3- تبني الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب مبادرة مختلفة للتعامل مع الاتفاق النووي الذي توصلت إليه إيران ومجموعة “5+1” في 14 يوليو 2015، ففضلا عن تصريحاته المتشددة تجاه الاتفاق، الذي وصفه بأنه “كارثي” وهدد خلال الفترة السابقة على الانتخابات الرئاسية بـ”تمزيقه”، فقد دعا ترامب إلى إعادة التفاوض من جديد من أجل الوصول إلى اتفاق يتضمن قيودًا أكثر على إيران.
أهداف متعددة:
ومن دون شك، فإن تلك الأطراف تسعى من خلال تبني مبادرات جديدة للتعامل مع التطورات التي تشهدها الأزمات الإقليمية المختلفة، إلى تحقيق أهداف عديدة، يمكن تناولها على النحو التالي:
1- تكريس توازنات القوى الجديدة: ترى بعض الاتجاهات التي تعارض إجراء مفاوضات موازية لتسوية الأزمة السورية، أن الجهود التي تبذلها روسيا، بالتفاهم مع إيران والنظام السوري، تهدف في الأساس إلى التوافق على محاور جديدة للتسوية تعكس توازنات القوى الجديدة التي فرضتها معركة حلب، التي سيطر عليها النظام والميليشيات الحليفة بعد إخراج قوى المعارضة منها. ومن هنا تتوقع تلك الاتجاهات أن لا يتم التطرق إلى قضية مستقبل رئيس النظام السوري في الحكم، خلال مفاوضات كازاخستان، رغم أنها إحدى العقبات الرئيسية التي حالت دون الوصول إلى تسوية سياسية للأزمة حتى الآن، وقلصت من قدرة الجهود السابقة على تحقيق نتائج بارزة في هذا الصدد.
2- إنهاء أزمات سياسية مزمنة: على غرار أزمة الفراغ الرئاسي في لبنان، التي استمرت لمدة 29 شهرًا منذ انتهاء ولاية الرئيس اللبناني السابق ميشال سليمان في مايو 2014، حيث لم تنجح القوى السياسية اللبنانية في الوصول إلى مرشح توافقي خلال تلك الفترة، بشكل فرض تداعيات سلبية داخل لبنان، على المستويات المختلفة، لا سيما الاقتصادية والأمنية، خاصة أن تلك الأزمة توافقت مع تصاعد حدة التوتر السياسي بسبب مشاركة حزب الله في الصراع السوري، وتنفيذ عمليات إرهابية عديدة داخل لبنان خلال الفترة الماضية.
لكن ثمة اتجاهات عديدة تشير إلى أن وصول ميشال عون إلى منصب الرئيس بعد انتخابه في 31 أكتوبر 2016، كان أحد بنود الصفقة التي توصل إليها مع رئيس تيار “المستقبل” سعد الحريري، والتي كانت تقضي بتولي الأول منصب الرئيس وتكليف الثاني برئاسة الحكومة، وهو ما حدث فعلا، بعد أن أقر الرئيس عون التشكيلة الحكومية الجديدة برئاسة الحريري في 18 ديسمبر 2016.
3- تغيير السياسات المتبعة: وهو ما يبدو جليًا في الخطوات التي بدأ يتخذها الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب، والتي يسعى من خلالها إلى إجراء تغييرات بارزة في السياسة الأمريكية التي تبنتها إدارة الرئيس المنتهية ولايته باراك أوباما، لا سيما فيما يتعلق بالاتفاق النووي مع إيران، حيث يرى ترامب أن تلك السياسة وجهت “رسائل خاطئة” لإيران، وهو ما بدا جليًا في تعمدها إجراء تجارب لإطلاق صواريخ باليستية، وإقدام قواتها البحرية على استفزاز بعض القطع الحربية الأمريكية في الخليج، فصلا عن أن الاتفاق النووي لا يضمن، وفقًا لرؤيته، أن لا تسعى إيران إلى محاولة الحصول على الإمكانيات التي يمكن من خلالها إنتاج القنبلة النووية.
تحديات محتملة:
لكن رغم تزايد الاتجاه نحو طرح مبادرات جديدة لتسوية الأزمات الإقليمية، إلا أن ذلك لا ينفي في الوقت ذاته أن ثمة تحديات عديدة يمكن أن تقلص قدرتها على الاستمرار أو تحقيق نتائج بارزة. إذ أن روسيا، في حالة ما إذا اتجهت فعلا إلى محاولة إفراغ مبادئ “جنيف 1” من مضمونها، سوف تواجه معارضة قوية من جانب الأطراف الإقليمية والدولية المعنية بالأزمة السورية، فضلا عن أن الخلافات القائمة بين الأطراف التي تسعى إلى إجراء مفاوضات جديدة في كازاخستان يمكن أن تقلص من قدرتها على تفعيل مسار جديد موازٍ لتسوية الأزمة السورية. إلى جانب أن مسار التسوية برمته ربما يشهد تحولات محتملة بعد تولى إدارة ترامب مهامها في 20 يناير 2017.
كما أن وصول عون إلى منصب الرئيس وتشكيل الحريري للحكومة الجديدة لن ينه الأزمات العديدة التي تواجهها لبنان في الفترة الحالية، خاصة في ظل استمرار الخلافات الرئيسية الأبرز التي لم يتم التوصل إلى توافق بشأنها، وعلى رأسها مشاركة حزب الله في الصراع السوري، والتي يمكن أن تتحول إلى مصدر تهديد لجهود تحقيق الاستقرار السياسي في لبنان خلال المرحلة القادمة.
فضلا عن أن الجهود التي قد تبذلها إدارة ترامب لإعادة التفاوض حول الملف النووي سوف تصطدم، على الأرجح، برفض من جانب إيران وربما القوى الدولية الأخرى التي شاركت في المفاوضات التي انتهت بالوصول للاتفاق، على أساس أن ذلك قد يؤدي إلى إعادة الأزمة النووية إلى مربعها الأول وإهدار كل الجهود التي بذلت في الأعوام الأخيرة من أجل تسويتها.
ومن هنا، ربما يمكن القول إن المبادرات الجديدة التي بدأت تظهر على الساحة الإقليمية في المنطقة تواجه عقبات عديدة لا تبدو هينة، خاصة أنها لا تحظى خلال الفترة الحالية بتوافق عام بين القوى المحلية والإقليمية والدولية المعنية بأزمات الشرق الأوسط.
مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة