عديدة هي الإصدارات التي باتت معنية في شكل كبير ببحث مستقبل الإسلام في القارة العجوز، بخاصة بعد احتدام النقاش أخيراً في موضوع اللاجئين ومشكلات اندماجهم في البلدان الأوروبية. فثمة من يرى إمكان أن يستحوذ الغرب على الإسلام كما سبق واستحوذ على المسيحية من قبل، وثمة من يرى أن الإسلام سيغدو الدين الثاني في أوروبا وفقاً الى معطيات المشهد الاجتماعي والثقافي والسياسي الراهن.
ومن بين الكتب المبكرة في هذا السياق كتاب «العرب والإسلام وأوروبا» الذي صدر في فرنسا عام 1991 عندما قرر اثنان من الفرنسيين المتخصّصين البارزين في دراسة العالم الإسلامي، وهما أندريه ميكال ودومينيك شوفالييه، أن يتحاورا في شأن هذا الموضوع، وانضم إليهما التونسيان المسلمان عز الدين قلوز وعبدالوهاب بوحديبة في سجال شرقيّ غربيّ اتسم بغلبة الاتزان والهدوء والموضوعية.
ففي هذا الكتاب المهم توزّع النقاش الدائر فيه حول المفردات الثلاث الواردة في العنوان، وإن تخطاها بطبيعة الحال إلى مناقشة قضايا رئيسة من مثل: الوحي والقرآن، الإيمان والعمل وجماليات الإسلام، والعلمانية والحداثة، والجدل الديموقراطي. والواقع أن النقاش الدائر حالياً تجاوز بالفعل بعض هذه الإشكاليات لينصب الاهتمام – بدلاً من ذلك – على موضوع الإسلام في الزمن الراهن، والسيناريوات المتوقعة لمستقبله من الصراع إلى الاندماج.
وبين يدي الآن كتابان صدرا مترجمين هذا العام عن المركز القومي للترجمة يعكسان هذا التحول في اهتمام دوائر التفكير الغربية بخصوص حاضر العلاقة بين الغرب والإسلام ومستقبلها ومآلاتها. الكتاب الأول شاركت في تأليفه نخبة من الباحثين الغربيين وحرّرته شيرين تي. هنتر بعنوان: «الإسلام الدين الثاني في أوروبا: المشهد الاجتماعي والثقافي والسياسي الجديد». والكتاب الثاني شارك في تأليفه كل من: هنري لورنس، وجون تولان، وجيل فاينشتاين، وهو بعنوان: «أوروبا والعالم الإسلامي: تاريخ بلا أساطير»، وترجمه بشير السباعي.
في الكتاب الأول يخصص المشاركون الجزء الأول منه المعنون «مسح الأقطار»، عبر فصوله العشرة، لتفحُّص واقع الإسلام في كل من فرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، وغرب أوروبا (دول البنلوكس)، والدول الإسكندينافية، والنمسا، وإسبانيا، واليونان، وأخيراً البرتغال. أما الجزء الثاني من الكتاب والمتعلق بقضايا التحليل فتناول في فصوله الخمس قضايا: أَوْرَبَة الإسلام أم أَسْلَمة أوروبا، والشباب الإسلامي في أوروبا، والشتات الإسلامي، مُنتهياً إلى محاولة استشراف مستقبل الإسلام في أوروبا.
وإذا كان الكتاب الأول انصبّ جل اهتمامه على اللحظة الراهنة وتبعاتها المستقبلية، فإن الكتاب الثاني ركّز في الجزء الأول منه على معالجة تاريخ العلاقات بين أوروبا والإسلام في العصر الوسيط، أي منذ ثلاثينات القرن السابع إلى القرن الخامس عشر الميلادي. فمن «عالم الجغرافيين» الذي اهتم بالنظر في الكيفية التي تصوّر بها الجغرافيون العرب والأوروبيون العالَم في العصر الوسيط، إلى مناقشة الإيديولوجيات التي استُخدمت لتبرير «الحرب المقدسة» إبّان الحروب الصليبية، انتهاء بمناقشة مصير الأقليات المسيحية في البلدان الإسلامية ومصير الأقليات المسلمة في البلدان المسيحية.
أما الجزء الثاني من الكتاب، فعالج الإشكالية ضمن الحقبة الحديثة الممتدّة من أواخر القرن الخامس عشر إلى أواخر القرن الثامن عشر، والتي شهدت تغيرات عميقة في أوروبا انتهت بدخولها عصر الحداثة. وأخيراً كُرّس الجزء الثالث من الكتاب، عبر فصوله السبعة، من أجل مناقشة تحولات العالم الإسلامي بدءاً بمنعطف القرن الثامن عشر وانتهاء بالرهانات المعاصرة ما بعد انتهاء حقبة الاستعمار.
وإذا كان وجود الإسلام في أوروبا يشكّل تحدياً كبيراً في ما يتعلق بمسألة الهوية وما يتبعها من حديث عن المواطنة وحدود الولاء، فإن العلاقات ما بين أوروبا والعالم الإسلامي باتت اليوم في قلب أحداث الساعة بحيث لا يمكن لأحد تجاهلها كحقيقة تاريخية.
والحال أن أهمية هذه العلاقات وثراءها واتساع حقبتها تاريخياً ليست واضحة للجميع، وليس أدل على ذلك من مزاعم صمويل هانتنغتون الذي صرح بأنه خلال الجزء الأعظم من تاريخ البشرية ظلت الاتصالات بين الحضارات متقطعة في شكل كبير. ووفقاً لهذا الخطأ التاريخي الجسيم يبني هانتنغتون أطروحته الشهيرة عن «صدام الحضارات» والتي تذهب إلى القول بأن عدداً محدوداً من الحضارات المتمايزة جداً (الغرب، الإسلام، الصين) يتطور في شكل مستقل نسبياً إلى أن يصطدم ببعضه بعضاً.
ضمن هذا السياق ينشغل مؤلفو الكتاب بتناول العلاقات بين العالمين الغربي والإسلامي من دون الوقوع في فخ هانتنغتون الذي يعد من باب الأساطير الواجب تجنبها «تاريخ بلا أساطير». فالعالم الإسلامي، أو دار الإسلام، يشمل مجمل الأراضي التي يعدّ الإسلام فيها الديانة الرئيسة، وهو مصطلح لا يجب خلطه بمصطلح الأمة، أي مجمل المؤمنين، والتي يدخل في قوامها أيضاً المسلمون الذين يحيون خارج دار الإسلام، أي الأقليات الإسلامية التي تعيش في بلدان غير محكومة بالإسلام.
ومن الواضح، وفق المؤلِّفَين، فإن دار الإسلام، شأنها في ذلك شأن أوروبا، ليست كياناً جغرافياً ثابتاً، فهي في توسع مستمر على امتداد العصر الوسيط، كما أنها تولِّد موجة من الفتوحات الخاطفة التي أدت خلال القرن الثاني لوفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى جعل المسلمين سادة لامبراطورية تمتد من نهر الإندوس ومن الهندو كوش شمال أفغانستان إلى السواحل الأطلسية للمغرب الأقصى والبرتغال.
وإذا كان لأوروبا والعالم الإسلامي ماضٍ طويل مشترك يرجع إلى أزمنة أصولهما، فإن هذين المفهومين لم يكتسبا معنى واضحاً إلا في سياق المواجهات التي دارت بينهما. فالفتوحات التي جرت في القرون الأولى للإسلام أنهت الوحدة المتوسطية الموروثة من الامبراطورية الرومانية، خالقة واقعاً جغرافياً جديداً. وبالمثل سرعان ما وصلت «دار الإسلام» إلى الحدود الخصامية للعالمين الثقافيين الصيني والهندي، ناهيك بإحرازها تقدماً بطيئاً في البداية في أفريقيا السوداء. لكن الحدود المتوسطية كانت دوماً الحدود ذات الأهمية الأكبر، وذلك بسبب قربها من المراكز الثقافية والسياسية والدينية الحيوية للعالمين الغربي والإسلامي.
فابتداء من القرن السابع إلى القرن الثامن عشر كانت المواجهات العسكرية بمثابة القاعدة، اذ شهدت العهود التاريخية الكبرى تقدمات تُرابية هائلة لأحد المعسكرين تتطابق في لعبة صفرية مع تراجع للمعسكر الآخر. ومع ذلك فإن القطيعة الكبرى حدثت في النصف الثاني من القرن الثامن عشر في الوقت الذي أحالت فيه فكرة أوروبا إلى فضاء ثقافي ونظام سياسي يتميز بالتوازن بين الدول. فبانتهاء حرب الأعوام الثلاثين أعادت أزمة الضمير الأوروبي فكرة وجود وحدة ثقافية تتخطّى انقسامات الدول ذات الديانة الواحدة، وقد أنشأ إنتاج المطبوعات فضاءً للكتاب والصحيفة حلّ محل الرسائل المخطوطة سابقاً. فالمطبوع، وفق المؤلفين، كان بمثابة محرك الاختلاف الأوروبي منذ أواخر القرن الخامس عشر حيث تشكّل رأس مال ضخم من المعارف والتقانات وجد ترجمة له في أنماط جديدة للتنظيم بخاصة في أوقات الحروب العالمية.
فالدولة العثمانية، الحليفة الخلفية التقليدية لفرنسا، انخرطت منذ العام 1768 في حرب كارثية ضد روسيا بهدف منع تقسيمها بولندا، لكن اسطولها البحري تم تدميره في تموز (يوليو) 1770 من قبل نظيره الروسي. وبموازاة ذلك أتاح التراكم المثير للمعارف بفضل المطبوعات فهم جوهر «التنوير الأوروبي» بوصفه مشروعَ بناءٍ لكلية المعارف وإضفاء معنى عليها، وذلك بفضل عاملين رئيسين أولهما: «أزمة الضمير الأوروبي» غداة حروب الدين، وثانيهما ما أحرزته الدولة الحديثة من وجوه تقدّم يميل إلى تقويض أسس المجتمعات النظامية القديمة.
كما أدى الانقلاب في تدفقات الهجرة إلى تكثيف العلاقات البشرية بين العالمين الغربي والإسلامي في إطار الثورات الجديدة اذ ترافق اختفاء الواقع الكولونيالي مع إنهاء الوضعية الشخصية التي كانت مرتبطة به. بمعنى أن الاستقرار والتجنس يتطلبان قبول الوضعية المدنية للسكان الأوروبيين، لكن الممارسات الاجتماعية والسياسية للدول المعنية كانت مندمجة على نحو مباشر وفق الرؤى الأنثروبولوجية. والحال أن الهجرة المسلمة إلى أوروبا تعلقت في المقام الأول ببروليتاريين ريفيين وحضريين، حتى وإن شارك بها جامعيون في شكل موازٍ أو متزايد.
وختاماً، دفعت الضغوط الهائلة لما بعد أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 البلدان الأوروبية إلى تبني رؤية محافظة في ما يتعلق بعلاقتها بالعالم العربي الإسلامي على وجه الخصوص. فالعداء للإسلام يتغذى على موجات إسلاموفوبيا تتذرّع في العادة بالإرهاب الجهادي والحساسية المفرطة تجاه كل ما يمت بصلة للإسلام.
ومع ذلك، فإن الثقافة الغربية مشرّبة تشرباً عميقاً بكل إسهامات العالم، بما في ذلك العالم العربي الإسلامي، كما أن تركيبتها البشرية تغيرتْ وتحوَّل قوامها الديني، فتحديد هوية أوروبية اليوم أصبح يأخذ في الاعتبار تعددية مكوناتها العرقية والدينية. وتتمثل الحقيقة الواقعية التاريخية في أن هناك اليوم في كلّ شخصية أوروبية جزءاً مسلماً، كما أنّ في كل مسلم جزءاً أوروبياً. والعنف الذي يتصور المرء أنه يمارسه ضد الآخر المرفوض هو بادئ ذي بدء عنف يمارسه المرء ضد نفسه هو.
محمّد حلمي عبدالوهّاب
الحياة اللندنية