تقول الوثيقة التي نشرت، أخيراً، إن روسيا والنظام السوري وقعا اتفاقاً لتوسعة قاعدة طرطوس، بحيث يمكنها استضافة 11 سفينة حربية روسية في الوقت نفسه، بالإضافة إلى بروتوكول ملحق بشأن نشر طائرات روسية، بلا مقابل، في قاعدة حميميم 49 عاماً قابلة للتمديد 25 عاماً.
هُيئت القاعدة الشعبية للنظام السوري لابتلاع هذا الإجراء، في عدة خطواتٍ، بدأت بمعلومات أشاعها مسؤولون، من الدائرة الأقرب لنظام الأسد، عن أهمية الدور الاستخباراتي الروسي في التعامل مع الاحتجاجات الشعبية منذ انطلاقتها. ثم أُعلن عن الأمر رسمياً، بعد أول فيتو روسي في مجلس الأمن ضد قرارٍ يقوِّض قمع النظام الاحتجاجات، وصار المتجوّل في سورية يطالع عبارة “شكراً روسيا” أمام المؤسسات الحكومية وفي المناطق الحيوية. ومن ثم دَعَمَ هذا التوجه مسيراتٍ صغيرةً احتلت وسط مدينة دمشق ومراكز مدن الساحل السوري. ولم تستهجن العين مشاهدة زيارات متبادلة وعاجلة بين رأس النظام السوري وقادة روس، سواء في الداخل السوري أو في موسكو، بما يؤكد علناً عمق العلاقات، ويوحي بالحالة الوصائية التي تمارسها روسيا على نظام الأسد، وقبوله ذلك برضى وامتنان.
قبلت الشريحة المؤيدة ذلك كله تدريجياً، فمنطلق الحكاية هو الدعم الروسي لاستمرار حكم الأسد المتهالك. وينتشي هذا العمق المؤيد ذو الطبيعة الأقرب للعلمانية بحليف سوفييتي، في مقابل تحجيم دور شريكه الأصولي التابع لولاية الفقيه. امتد الرضى عن الوجود الروسي إلى طبقة أبعد قليلاً عن الفئة المتعارف عليها “بالشبيحة”، حتى تقبّله قسمٌ من الوسطيين (أو الرماديين)، وهؤلاء منتشرون بين عامة الشعب، وأيضاً بين النخب المحسوبة أحياناً على المعارضة، ليأتي بعد ذلك بيع قاعدة حميميم أو تأجيرها في سياق مقبول وغير مستغرب.
تتداعى إلى الذاكرة قصة رهن الخديوي إسماعيل أسهم مصر في قناة السويس البحرية، البالغة 44% من إجمالي أسهم القناة، في صفقة أجراها مع الإنكليز، بعد تراكم ديون مصر، وتدهور وضعها المالي، بسبب انفلاش البذخ الذي عاشته الخديوية، وانخفاض سعر القطن (السلعة الاقتصادية لميزان مصر التجاري) في الأسواق العالمية. وقد دفع رئيس الوزراء البريطاني آنذاك، بنيامين دزرائيلي، المبلغ على الفور، وصارت القناة هي الضمانة لإعادة الديْن، مضافةً عليه فوائد بقيمة 5% كل سنة، ابتداء من عام 1875 حتى 1894.
اعتبرت هذه الصفقة أشهر عملية بيع أسهم في العالم، حيث تسببت بكارثة على البلاد، ومهّدت للاحتلال الإنكليزي، عام 1882، على مصر، بالإضافة إلى الخسارة المالية الفادحة، إذ اتضح أن السهم الذي باعته مصر بـ 560 فرنكًا أصبح سعره بعد ثلاثين سنة فقط 5010 فرنكات، وحصتها من أرباح القناة التي باعتها بـ 22 مليون فرنك فرنسي أصبحت قيمتها 300 مليون فرنك فرنسي، وبقي الامتياز قائمًا بشروطه، حتى جاء قرار جمال عبد الناصر بتأميم القناة عام 1956، أي قبل نهاية الامتياز بـ12 سنة.
ستبدو الخسارة السورية أكبر من تلك المصرية، حيث تم البيع هنا “ببلاش”. وليس ثمة مجال للمناورة، فالبيع قطعي ولا أمل باسترجاع ما ذهب إلا برحيل نظام الأسد نفسه. وهذا ما تحرص روسيا على منعه بأي طريقة. أما المكاسب الروسية الآنية، فأبرزها وضع حد للتنافس الإعلامي بين المسؤولين الروس وقيادات فيلق القدس الإيراني وحزب الله، حول تحديد الجهة الحقيقية التي سندت صمود الأسد، ومنعت سقوطه، بالإضافة إلى التوسع الروسي في المياه الدافئة بشكل خطير، والاتفاق مع تركيا على جر قادة الفصائل السورية إلى أستانة، لتوقيع اتفاق على وقف إطلاق النار، يمكن خرقه حسب الطلب. الجهة الوحيدة التي يمكن أن تمنع مثل هذا الوضع هي أميركا. لكن، في عهد دونالد ترامب الذي ينادي “أميركا أولاً”، يبدو أن تركيا كانت محقّة بخوض لعبة تبديل الحلفاء.
فاطمة ياسين
صحيفة العربي الجديد