لا شك أن الاستعمار شكّل صدمة تاريخية كبيرة، بحيث لم يكن من الممكن أن تعود الأمور في أجزاء واسعة من العالم كما كانت قبل لحظة السيطرة الامبريالية. أما بعد استقلالها فقد بدأت تلك الدول بشكل متفاوت عمليات دؤوبة من أجل البحث عن الذات المفقودة، وهي العملية التي ستستمر لعقود والتي ستكون مرهقة ومكلفة وشديدة التعقيد.
لم يكن من السهل تجاهل حقبة الاستعمار والعودة بالعلاقات الاجتماعية وطرق الإدارة إلى سابق عهدها، فالغزو الأجنبي استمر في أغلب الأحوال لفترات طويلة جداً تقارب في المتوسط قرناً من الزمان. في الوقت ذاته لم يكن من السهل على الدول والشعوب، التي فرحت بالاستقلال أن تعود لتعترف بضرورة محاكاة الأنظمة السياسية والثقافية لدول الاستعمار، أو أن تعترف ببساطة بأنها الأفضل والأنسب.
لم يكن ذلك التراوح سهلاً، فمن ناحية يرغب الجميع في العودة للجذور والبناء على التاريخ، وعلى استئناف ما انقطع من نهج حضاري، ومن ناحية أخرى ترى أغلب النخبة الثقافية والسياسية أنه لا بديل عن محاكاة الإطار السياسي الغربي في الحكم والإدارة.
يمتزج في هذه القضية ما هو سياسي بما هو ثقافي واجتماعي، فالمناطق المستعمرة في غالبها لم تكن تعرف شكل الدولة بمعناها الغربي الصارم، بل لم تكن في أجزاء واسعة من العالم الثالث تعرف أي شكل من أشكال الدولة الحديثة. نعني بالدولة الحديثة الدولة المبنية على المواطنة، وعلى الحدود المعينة والمعروفة والفاصلة بين الدول والأقاليم، ففي أجزاء كبيرة من عالم القرن التاسع عشر وحتى بداية القرن العشرين كان المواطنون ينتقلون بحرية من إقليم إلى آخر دون الانتساب إلى منطقة جغرافية معينة، خاصة القبائل التي تعتمد على الترحال والتي ستسمى بعد ميلاد الدولة الحديثة بالقبائل الحدودية، وهي تسمية لا شك في أنها ظالمة وغير دقيقة لأنها توحي بأن الحدود كانت الأسبق، في حين الحقيقة أن تلك القبائل هي الأصل وأن المشكلة هي مشكلة الحدود الطارئة التي لم تراع ذلك التواجد المسبق.
الحدود التي وضعها المستعمر بحسن أو بسوء نية من أجل توزيع وتنظيم المستعمرات إدارياً، أو بين أكثر من قوة كولونيالية في ذلك الحين، وكان أشهرها ما تواضع عليه سايكس وبيكو بالنسبة للمنطقة العربية، وما اتفق عليه المؤتمرون في اجتماعهم الشهير في برلين من أجل توزيع المناطق الأفريقية، هذه الحدود التي لم تراع التداخلات القبائلية أو الإثنية ولا الامتدادات التاريخية بين مكونات المناطق والبلدان، ستتحول إلى لب صراعات حقبة ما بعد الاستعمار، وستتسبب في حروب ومآس كثيرة سترزح عدة دول تحت نيرانها. لأن المصير متشابه ولوجود عوامل مشتركة بين أغلب دول العالم الثالث مثل الحلقة المفرغة للحداثة والتقليد والحدود المقدسة والهوية المتنازعة وغيرها، إضافة لخيبة الأمل التي أصابت الشعوب، التي لم تكن تتحرر من قبضة المستعمر حتى وجدت نفسها تسقط ضمن قبضة أقسى لمن احتكر باسم النضال أو القومية معنى الوطن. لكل ذلك فقد نشأ ضمن العلوم الثقافية فرع باسم دراسات ما بعد الاستعمار، يركز على دراسة تلك الخصائص المشتركة التي ميّزت الغالب من تلك الدول الوليدة.
أطلق الباحثون على هذه الكيانات الجديدة التي نشأت بعد الحقبة الاستعمارية عدة أسماء فمنهم من وصفها بالدول المشوهة التي هي في مرحلة بين التقليدية والمواصفات الغربية. ومنهم من وصفها بالدول المستوردة، في إشارة لاستيراد النظم السياسية التي لا تعبّر بشكل صحيح عن واقع المجتمعات ودقائق الاختلافات في العوالم النامية، وغيرها من التسميات التي ظلت توحي بظلال سالبة بشكل عام. إلا أن التسمية التي لفتت نظري أكثر كان التعبير الذي أطلقه ريتشارد جوزيف على ذلك النوع من النظم السياسية، حيث وصفها «بالديمقراطية الافتراضية». في هذه الدول الناشئة هناك انتخاب شكلي وافتراضي واقتراع شكلي أيضاً، في حين يبقى الأساس هو التوزيع لا على أساس الأحزاب متباينة الأفكار، وإنما على أساس القبيلة والعشيرة. ربما كان جوزيف يتحدث واضعاً في الاعتبار المثال الأفريقي، فهو متخصص في السياسة الأفريقية، إلا أن التعبير قابل للتعميم على مناطق أخرى من العالم تريد الجمع بين عضويتها في النادي الديمقراطي واحتفاظها بالسلطة لقياداتها التقليدية. الديمقراطية الافتراضية ستشرح لنا كيف أن مفهوم تداول السلطة، الذي هو لب العملية الديمقراطية، سيظل في كثير من الحالات غريباً وقابلاً للتجاوز بمحاولات متذاكية للالتفاف عليه عن طريق خلق تصالح مع منهج القيادة التقليدية، التي لا يترجل فيها الزعيم إلا في حالات نادرة جداً.
هذه الحقائق يجب ألا تشكل أي حكم سلبي على العالم الثالث، فقد كان من غير المعقول أن تتحول تلك البلدان بين ليلة وضحاها وبعد عقود من التبعية والاحتلال إلى دول ديمقراطية على الطريقة الغربية، لكن المفارقة وسبب الإحباط كان أن الشعوب، وبسبب قلة خبرتها السياسية، كانت تنتظر فعلاً تحولاً مفاجئاً بعد الاستقلال باعتبار أن الاحتلال هو الذي كان يؤخرهم عن اللحاق بركب الحضارة، فانتظروا تحقيق التنمية والرفاه والتقدم، ولكل ذلك فإن إحباطهم كان كبيراً جداً حينما وجدوا أن الوضع في أحسن الأحوال سيبقى على ما هو عليه في حين ستنحدر مجموعة كبيرة من الدول إلى مسالك الفوضى والعدم. هذه الحالة الجماعية من الاحباط الناشئة عما يمكن تسميته بالطموح غير المرشّد تشبه الحالة التي تصاب بها الشعوب عقب الثورات الكبيرة. فبعد التخلص من الطاغية الذي كانت كل الأدبيات الثورية تصوره على كونه السبب الرئيس في كل مشاكل البلاد، سيكتشف أولئك أن الإصلاح يتأخر، وعوضاً عن منح المصلحين الفرصة ومحاسبتهم بموضوعية، فإن الغضب الشعبي سرعان ما سيشوش عليهم وسرعان ما سيجدون أنفسهم متهمين بالفساد وإضاعة الفرص.
بالطبع فإنه كان من بين تلك القيادات البعد – استعمارية من هو فاسد فعلاً، بل لعل هذا كان الحال الغالب، خاصة أن تلك القيادات ارتبطت في معظمها بطريقة أو بأخرى بالمستعمر نفسه، وهو الأمر الذي وصل في بعض الأحيان لحد الاختيار والتوظيف المباشر، إلا أننا نعود لنقول هنا إن التحدي أمام تلك الدول الناشئة كان أكبر من قدرة أي حكومة أو قيادة وطنية بغض النظر عن نواياها.
في الوقت ذاته يمكن القول إن تكرار الحديث عن الخطط الامبريالية للإضعاف والتقسيم غير مفيد، وإن الواجب هو الالتفات إلى محددات الواقع لا إلى تخيل ما وجب أن يكون. هذه النظرة الموضوعية هي التي دعت الدول الأفريقية، على سبيل المثال، ومنذ وقت مبكر إلى الاتفاق على تكريس مبدأ عدم مناقشة الحدود التي وضعها المستعمر، ليس احتراماً لسلطة المستعمر ولا اعترافاً بحكمته، ولكن لأن هذه الحدود أصبحت أمراً واقعا،ً ولأن مناقشتها اليوم تعني في الغالب التورط في نزاعات مدمرة ولا نهائية.
د.مدى الفاتح
صحيفة القدس العربي