توعد ترمب خلال حملته الانتخابية بتمزيق الاتفاق النووي الذي توصلت إليه بعض الدول الغربية مع إيران. وقد ردد أنه اتفاق سيء ولا يخدم مصالح الولايات المتحدة، والأفضل التخلص منه.
ربما كانت تلك التصريحات من جملة التصريحات في حيز الوقت الواسع ودون أن تترتب عليه تداعيات؛ فعادة يأخذ الشخص أو بالتحديد المرشح للانتخابات راحته في إطلاق العنان لتصريحاته، دون أن يحسب للأجواء التي ستحيط به فيما إذا فاز في الانتخابات. لا أحد يكترث بوعود الحملة الانتخابية بعد الانتخابات إلا إذا فاز المرشح. عندها سيخضع للرقابة الجماهيرية والإعلامية وربما لرقابة الدولة ومجالسها ليتبينوا مدى وفائه بوعوده.
بالنسبة لترمب، لم يكن بخيلا في إطلاق التصريحات المثيرة للجدل، وبعض تصريحاته لم تكن موضع اهتمام لنسبة عالية من الناس لأن استطلاعات الرأي العام الأميركية ضللت الناس فيما يتعلق باحتمالات الفوز. لكن الأمر بعد فوزه تغير، وأخذ الباحثون يدققون فيما صرح ويخضعون ذلك للدراسة والتمحيص. ويبدو أن تصريحاته حول الاتفاق النووي مع إيران تستقطب اهتماما كبيرا على مستوى عالمي وليس فقط على مستوى الولايات المتحدة.
الداخل الأميركي
من المعروف أن الداخل الأميركي كان منقسما حول الاتفاق النووي مع إيران. هناك من عبروا عن ارتياحهم للاتفاق لأنه يجنب أميركا الدخول في حالة توتر جديدة في العالم العربي الإسلامي، ويجنبها احتمالات الحرب، وأغلب هؤلاء ينتمون إلى الحزب الديمقراطي الأميركي. على الرغم من أن بعض أعضاء الكونغرس الأميركي لم يكونوا راضين عن الاتفاق بخاصة إذا كانوا من أصدقاء إسرائيل المقربين.
“بعض الأميركيين وقفوا بشدة ضد الاتفاق وعلى رأسهم أعضاء في الكونغرس الأميركي من الحزب الجمهوري. بعض هؤلاء قالوا إن الاتفاق يسمح لإيران بتطوير القنبلة النووية مستقبلا الأمر الذي يهدد إسرائيل ومصالح أميركا في الخليج”
ومن بين الأميركيين من وقفوا بشدة ضد الاتفاق وعلى رأسهم أعضاء الكونغرس الأميركي من الحزب الجمهوري. بعض هؤلاء قالوا إن الاتفاق يسمح لإيران بتطوير القنبلة النووية مستقبلا الأمر الذي يهدد إسرائيل ومصالح أميركا في الخليج. وعلى الرغم من الانقسام في الداخل الأميركي فإن تطبيق الاتفاق من قبل الأطراف الموقعة عليه استمر إلا من بعض العراقيل التي وضعتها الولايات المتحدة بخاصة فيما يتعلق بالعقوبات الأميركية على إيران. بقي الكونغرس ذو الأغلبية الجمهورية متصلبا ويصوت لصالح تجديد العقوبات المستمرة منذ عام 1979.
المسألة ما زالت تتفاعل في الداخل الأميركي، ودخل على الخط علماء ومثقفون وجمعيات وأصحاب رأي. وعلى رأس هؤلاء مجموعة من علماء أميركا بقيادة العالم ريتشارد غاروين أب القنبلة الهيدروجينية والذين طلبوا من ترمب ألا يلغي الاتفاق مع إيران. وهناك من يطلب من ترمب الإلغاء بخاصة من الذين يوالون إسرائيل ولا يوفرون جهدا لدعمها إلا قدموه. وأخيرا ظهر ماتيس المرشح لوزارة الدفاع الأميركية والذي كان من أشد المعارضين للاتفاق، وغير رأيه أثناء لقائه مع لجنة الكونغرس الخاصة بالاستماع إليه. قال أمام اللجنة إن الاتفاق ليس كاملا ولا يلبي كل المتطلبات الأميركية لكن أميركا تحترم توقيعها وتلتزم بتعهداتها. المعنى أنه غير رأيه، ومن الوارد أن ترمب قد علم بهذا التغيير لكنه طلب من الكونغرس الموافقة على تعيينه وزيرا للدفاع.
التداعيات المتوقعة للإلغاء
إذا قررت أميركا إلغاء الاتفاق فلا بد أن تترتب على ذلك تداعيات أبرزها:
1- تأثر صدقية الولايات المتحدة أمام أصدقائها الأوروبيين وأمام الدول العظمى دائمة العضوية في مجلس الأمن، وأمام الأمم المتحدة ككل وأمام دول العالم. أميركا دول عظمى وهي أقوى دول الأرض، ولا يليق بها إطلاقا النكوص والتراجع عن أمر ساهم في استرخاء العالم الذي كان يخشى صداما عسكريا جديدا في المنطقة العربية الإسلامية. كيف للعالم أن يثق بأميركا بعد ذلك وهو يرى أن المعاهدات لا تلزم الولايات المتحدة وإنما تبقى معاهدات بين دول وأحد الأحزاب الأميركية؟ والعالم سيتساءل عن المؤسسية في الولايات المتحدة، ومدى التزامها بانسياب العلاقات الدولية والمحافظة على استقرارها السلمي.
ورد الفعل السلبي تجاه تمزيق الاتفاق سيشمل المستويين الرسمي والشعبي بخاصة في أوروبا التي تنفست شعوبها الصعداء بعد توقيع الاتفاق. أوروبا ليست معنية بتصعيد التوتر في المنطقة العربية الإسلامية لأنه سرعان ما ينعكس عليها سلبا من النواحي الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. صحيح أن إسرائيل تضغط بقوة وربما بعض البلدان العربية من أجل إلغاء الاتفاق، لكن أوروبا هي التي تدفع ثمنا باهظا إذا انتهت الأمور إلى حرب. وأوروبا تدرك أن قدرات إيران العسكرية ضخمة وقد يطالها نصيب من اشتعال النيران.
“إذا أغلي الاتفاق ستخسر إيران اقتصاديا، وسيكون الضغط الاقتصادي الأميركي عليها مؤذيا. لقد لحق بإيران أذى اقتصادي كبير على مدى سنوات الحصار، ودفع الشعب الإيراني ثمن هذه العقوبات، وقد بدأت تتنفس اقتصاديا بعد رفع العقوبات عنها بعد الاتفاق النووي، لكنها الآن تحت تهديد استمرار المقاطعة الأميركية”
2- ستتحمل الولايات المتحدة تكاليف التوتر مع إيران والتي ستعلو على بلايين الدولارات من أموال دافع الضرائب الأميركي، وأميركا لا تنقصها نفقات وديون. التوتر مكلف حتى على المستوى الشخصي، فكيف تكون النفقات إذا كان الأمر يتعلق بدول؟ بعض الدول لا تضع هذه الكلفة في الحسبان عندما تتخذ قراراتها، وتترك التكاليف لتطور الأوضاع ميدانيا وسياسيا.
في الحالة الأميركية، ستتخذ الولايات المتحدة احتياطات أمنية في حال تم تمزيق الاتفاق النووي، وذلك لمواجهة أية مخاطر أمنية يمكن أن تواجه الداخل الأميركي، وستنشط الأجهزة الأمنية الأميركية ومواقع التواصل وفرق المراقبة الإلكترونية.. الخ، وهذه إجراءات مكلفة جدا وتعتدي أحيانا على الحريات الشخصية في تناقض واضح مع الدستور الأميركي. والأهم في مسألة التكاليف أن الولايات المتحدة سترفع من درجة الاستطلاع فوق الأراضي الإيرانية وستحرك جواسيسها وعملاءها لرصد مختلف النشاطات الإيرانية التسليحية سواء كانت صاروخية أو نووية. وستضطر الولايات المتحدة أن تكثف من دورياتها البحرية في الخليج وفي بحر العرب والمحيط الهندي. وقد تضطر أميركا إلى تطوير أسلحة جديدة لمواجهة القوى الإيرانية الصاروخية والتكتيكات الحربية الإيرانية.
3- ستهتز صورة الولايات المتحدة الأميركية في الأروقة العلمية والديبلوماسية على اعتبار أنها ستصبح دولة عصابات أكثر منها دولة محترمة. سيثير إلغاء الولايات المتحدة للاتفاق الأكاديميين في مختلف جامعات العالم، وسيصبح الانزلاق الأميركي مثلا حيا حول تصرف دولة عظمى بصورة غير مسؤولة. وهذا سينسحب على الأكاديميين الأميركيين الذين سيكونون الأكثر نشاطا في التعليقات على سلوك دولتهم.
المستوى الدولي
ستجد الولايات المتحدة صعوبات وعراقيل في محاولاتها المستمرة لإطفاء نيران حرائق أو إشعالها بالمزيد، وستجد ديبلوماسيتها نفسها في وضع يتطلب جهودا مضاعفة لنيل ثقة الدول. وربما ستكون الشعوب الأوروبية الأكثر حساسية لهذا الأمر، وستحرض حكوماتها على عدم الثقة بأميركا. لقد وقع الأوروبيون الاتفاق النووي على اعتبار أنه أفضل ما يمكن التوصل إليه على طاولة المفاوضات، وكانوا معنيين بتجنب التوتر والصدام من أجل مصالحهم. إلغاء الاتفاق من جانب أميركا سيعيد عقارب الساعة إلى الوراء وستذهب إيران إلى نشاطاتها النووية من جديد، وكأن سنوات المفاوضات الشاقة كانت عبثا وتسلية. من المتوقع أن يكون رد فعل الشعوب الأوروبية أكثر حدة من رد فعل الحكومات والسبب أن الحركة الشعبية لا تخضع للإرادة الأميركية، لكن الحكومات تتأنى كثيرا في التعبير عن نفسها وتبقى متحفظة إلى حد كبير.
كما أنه من الوارد أن يشعل تمزيق الاتفاق سباقا للتسلح بخاصة في المنطقة العربية الإسلامية، وهذا يعني المزيد من التوتر بين إيران وبعض الدول العربية الخليجية. صحيح أن أميركا ستحقق أرباحا كبيرة جراء بيع الأسلحة للعرب، لكنها ستضطر إلى تكثيف نشاطها العسكري في المنطقة لحماية دول عربية ونفطها.
إيران وإسرائيل
من المتوقع أن تعود إيران إلى نشاطها النووي إذا مزقت أميركا الاتفاق النووي. ليس من المتوقع أن توافق إيران على إعادة التفاوض، أو إعادة النظر ببعض بنود الاتفاق. الرد المتوقع هو العودة إلى تخصيب اليورانيوم والتجهيز العلمي لصناعة القنبلة النووية. لقد استفاد الغرب من الاتفاق بأن أجل النشاطات النووية الإيرانية لسنوات، والتمزيق سيقضي على أهم إنجاز غربي.
“استمرت إسرائيل بالتحديد في العمل ضد الاتفاق علنا بخاصة في الساحة الأميركية ولدى أعضاء الكونغرس، وقد أنعش تهديد ترمب بإلغاء الاتفاق إسرائيل، وضخ فيها أملا جديدا لتدمير المنشآت النووية الإيرانية وإلغاء المشروع النووي الإيراني بالكامل”
لكن عودة إيران لن تكون كالسابق، فدول كثيرة على المستوى العالمي كانت تتناقض مع طهران بسبب النشاط النووي. هذه المرة لن يعود زخم التناقض كما كان، والعديد من الدول ستجد لإيران عذرا في استعادة حيويتها النووية. وستكون جدلية إيران على الساحة الدولية أكثر قوة وعمقا وإقناعا. كما أن إيران ستشعر بأنها حصلت على شرعية في استعادة نشاطها النووي لأن الطرف المقابل نقض العهد، ونقض العهد يفتح بابا واسعا أمام الطرف الآخر ليمارس حقه الذي كان موضوع المفاوضات. ومن الوارد أيضا أن تعجز الولايات المتحدة عن حشد الدول في مواجهة إيران، وقد تذهب روسيا والصين في طريق معاكس وتقدمان دعما سياسيا وديبلوماسيا لإيران. أي أن الأمم المتحدة لن تكون مسرحا حرا للولايات المتحدة لاتخاذ القرارات التي تراها مناسبة ضد إيران، وستكون الديبلوماسية في أروقة الأمم المتحدة أكثر حدة ومتميزة بالتوتر بين الأطراف.
إيران ستخسر اقتصاديا، وسيكون الضغط الاقتصادي الأميركي عليها مؤذيا. لقد لحق بإيران أذى اقتصادي كبير على مدى سنوات الحصار والتي امتدت منذ عام 1979، ودفع الشعب الإيراني ثمن هذه العقوبات، وقد بدأت تتنفس اقتصاديا بعد رفع العقوبات عنها بعد الاتفاق النووي، لكنها الآن تحت تهديد استمرار المقاطعة الأميركية. لقد فشلت العقوبات سابقا بتحطيم إرادات الدول التي عانت من العقوبات، ولا أرى أن العقوبات هذه المرة ستنجح ضد إيران، لكن الأذى والضرر لا مفر منهما.
ستقنع إيران العديد من الدول وعلى رأسها دول غربية أنها هي المهددة وليس الولايات المتحدة. لدى إيران الحجج الكافية لإقناع العالم أنها لم تكن تقصد معاداة أحد أو النيل من أحد، وإنما كانت تعمل على انتزاع حقوقها في تطوير الطاقة النووية لأغراض سلمية. ولهذا ستجد إيران نفسها في استرخاء تسليحي، وستكون أقدر على المماطلة فيما إذا قررت العودة إلى نشاطها النووي. لن يكون أهل الغرب بذات الحماسة القديمة للضغط على إيران، ولن يمارس الشعب الإيراني الضغوط الهائلة على حكومتهم للاستجابة لبعض المطالب الغربية. سيقتنع الشعب الإيراني أن إيران ليست المعتدية وإنما هي المعتدى عليها.
وإيران ستتكلف كثيرا في مجال التسليح لأنها ستدخل في سباق تسلح مع بعض دول الخليج العربية. دول الخليج غير مطمئنة لإيران وتشكك دائما بنواياها العسكرية والسياسية. أي ستكون هناك عملية استنزاف مالي للعرب والإيرانيين على حد سواء، ولا أظن أن الطرفين سيتعظان بالدروس السابقة.
أما إسرائيل فستكون سعيدة جدا بإلغاء الاتفاق النووي مع إيران. عملت إسرائيل ومعها دول عربية على تعطيل توقيع الاتفاق النووي، وجرت اتصالات مكثفة مع قيادات أهل الغرب لثنيهم عن توقيع الاتفاق.
وقد استمرت إسرائيل بالتحديد في العمل ضد الاتفاق علنا بخاصة في الساحة الأميركية ولدى أعضاء الكونغرس. تهديد ترمب بإلغاء الاتفاق أنعش إسرائيل، وضخ فيها أملا جديدا لتدمير المنشآت النووية الإيرانية وإلغاء المشروع النووي الإيراني بالكامل.
عبد الستار قاسم
المصدر : الجزيرة