في نفس الأسبوع الذي استعرضت فيه رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي رؤيتها حول الخروج البريطاني “الصعب” من الاتحاد الأوروبي (الانسحاب من السوق الأوروبية الموحدة والاتحاد الجمركي) التقى الرئيس الأميركي دونالد ترمب أحد كبار المتشككين في أوروبا في حزب المحافظين، وهو مايكل جوف.
وكان جوف داعما لإعلان ترمب العام أن الولايات المتحدة تعتزم التحرك “بسرعة بالغة” للتوصل إلى اتفاق تجاري لمرحلة ما بعد الخروج البريطاني مع المملكة المتحدة.
ليس من المستغرب من أنصار الخروج في المملكة المتحدة الآن أن يروجوا لاتفاق تجاري افتراضي مع الولايات المتحدة كوسيلة لشغل الفراغ التجاري في بريطانيا بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي. ولكن ربما يتبين لنا أن هذا الحل عقيم، لأن المملكة المتحدة لديها فائض تجاري مع الولايات المتحدة، وكان ترمب من أشد منتقدي العجز التجاري الأميركي. من ناحية أخرى، يتساءل العديد من المراقبين في أوروبا القارية ما إذا كان سعي المملكة المتحدة إلى إبرام اتفاق ثنائي مع الولايات المتحدة يرجع إلى اعتبارات اقتصادية بحتة، أو أنه ينطوي على تحول أوسع في السياسة الخارجية البريطانية.
“يوحي سلوك حكومة تيريزا ماي مؤخرا بأنها تضع مصالح الإدارة الأميركية الجديدة قبل مصالح الاتحاد الأوروبي وبقية العالم. ولكن ربما لا يكون تدخل ماي غير التقليدي مفاجئا، نظرا لميل ترمب إلى مكافأة مثل هذا السلوك الهدّام”
يوحي سلوك حكومة تيريزا ماي مؤخرا بأنها تضع مصالح الإدارة الأميركية الجديدة قبل مصالح الاتحاد الأوروبي وبقية العالم. وكان هذا النهج واضحا تمام الوضوح في ديسمبر/كانون الأول، عندما انتقدت ماي إدانة وزير الخارجية الأميركي آنذاك جون كيري لبناء المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية. ولكن ربما لا يكون تدخل ماي غير التقليدي مفاجئا، نظرا لميل ترمب إلى مكافأة مثل هذا السلوك الهدّام.
وفي وقت سابق من هذا الشهر، في اجتماع لمجلس الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي، اعترض وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون على بيان الاتحاد الأوروبي الداعم لجهود السلام الجارية في الشرق الأوسط. ثم رفضت الحكومة البريطانية إرسال وفد رفيع المستوى إلى مؤتمر السلام في الشرق الأوسط الذي تنظمه الحكومة الفرنسية، بحجة أن هذا المؤتمر من شأنه أن يبعث برسالة خاطئة قبل أربعة أيام فقط من شغل ترمب لمنصبه. وليس سرا في أي جانب يقف ترمب عندما يتعلق الأمر بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني: فعلى مدار حملته الانتخابية، كان حريصا على الوعد بنقل السفارة الأميركية في إسرائيل من تل أبيب إلى القدس في انتهاك واضح للقانون الدولي.
في الوقت نفسه، هناك بعض الأدلة التي تشير إلى أن فريق ترمب المتشكك في أوروبا يؤثر على إستراتيجية الخروج البريطاني التي تنتهجها ماي. فقد التقى جونسون مع أعضاء أساسيين في إدارة ترمب قبيل خطاب ماي الأخير، وبوسعنا أن نفترض بأمان أنهما ناقشا مسار المملكة المتحدة إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي. ومن جانبهم ألمح مسؤولون في إدارة ترمب منذ ذلك الوقت أنهم ساعدوا في إقناع ماي بالرهان على الخروج البريطاني الصعب.
ويمثل هذا انقلابا مذهلا في سياسة الولايات المتحدة تجاه أوروبا -والتي دعمت بثبات طوال سبعين عاما التكامل الأوروبي- بل ويمثل أيضا تحولا جذريا في موقف المملكة المتحدة الخارجي. ومن الواضح أن ماي على استعداد للمقامرة بمستقبل بلادها على التحالف مع رئيس أميركي كذوب ولم يُختَبَر بعد ويفتقر إلى الشعبية.
بالتودد إلى ترمب، وكبير الإستراتيجيين في البيت الأبيض ستيفن بانون، وغيرهما من الشخصيات المتشككة في أوروبا داخل الإدارة الأميركية، تلعب حكومة ماي دورا بالغ الخطورة وقصير النظر. ففي خطابها الأخير، ادعت ماي أن “المملكة المتحدة تترك الاتحاد الأوروبي وليس أوروبا”. ولكنها تُحسن صنعا إذا تذكرت أن أمن بريطانيا ورخاءها يرتبطان في المقام الأول بالاتحاد الأوروبي، وليس الولايات المتحدة الانعزالية التي ترفع شعار “أميركا أولا”. فالغالبية العظمى من تجارة المملكة المتحدة هي مع الاتحاد الأوروبي، وليس الولايات المتحدة؛ ولن تتغير هذه الحقائق، كما لن يتغير موقع المملكة المتحدة الجغرافي وبيئتها الأمنية.
“ينبغي لقادة المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي أن يسيروا على خُطى المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وأن يوضحوا لترمب بما لا يدع مجالا للشك أن تعاونهم مشروط بالقيم المشتركة. وأن يدافعوا عن قواعد الديمقراطية الليبرالية ويروجوا لها، بعيدا عن تبني القومية الشعبوية النرجسية”
بالسعي إلى إقامة علاقة وثيقة مع كل من إدارة ترمب والاتحاد الأوروبي، تحاول ماي ركوب جوادين في وقت واحد. وقد شكك ترمب بالفعل في سبب وجود الاتحاد الأوروبي، واقترح أن المملكة المتحدة لن تكون آخر دولة تنسحب من الكتلة. وكان بانون حريصا على تشجيع الأحزاب القومية الأوروبية اليمينية المتطرفة، واعدا بمساعدة زعيمة الجبهة الوطنية مارين لوبان في حملتها لتولي الرئاسة الفرنسية هذا الربيع.
إذا استمر ترمب في النظر إلى حلف شمال الأطلسي باعتباره كيانا “عفا عليه الزمن” أو إذا بدأ في هدم أركان النظام الدولي والمنظمات فوق الوطنية التي حافظت على الاستقرار العالمي منذ عام 1945، فسوف يقوض الأمن البريطاني والأوروبي والأميركي. ومن الصعب أن نرى كيف قد يصب ضعف الاتحاد الأوروبي، أو حلف شمال الأطلسي، أو الأمم المتحدة في مصلحة أي طرف.
ألمح خطاب تنصيب ترمب إلى أن بقية العالم ازدهرت على حساب الأميركيين العاديين. وقد وَعَد بجعل أميركا عظيمة مرة أخرى بعزلها عن كل التأثيرات السلبية، والحد من التجارة، ودعم المنتجات الأميركية الصنع. ولكن إذا استمر ترمب على هذا المسار، فسوف يجعل كل الدول، بما في ذلك الولايات المتحدة، أفقر كثيرا. ومن جانبها، ينبغي لتيريزا ماي أن تدرك أن المملكة المتحدة لن تجد مجالا يُذكَر في عالَم “أميركا أولا”.
بدلا من الإذعان لإدارة ترمب، ينبغي لزعماء بريطانيا وأوروبا أن يلفتوا النظر إلى أن “عظمة” أميركا تستند إلى مؤسسات قوية متعددة الأطراف، وشراكات وثيقة، وقواعد دولية حافظت لفترة طويلة على السلام والاستقرار العالميين. وينبغي للقادة في كل من المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي أن يعكفوا على صياغة شراكة إستراتيجية لضمان الأمن الأوروبي، الآن بعد أن ألقت رئاسة ترمب بظلال من الشك على الضمانات الأمنية الأميركية.
وأخيرا، ينبغي لقادة المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي أن يسيروا على خُطى المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وأن يوضحوا لترمب بما لا يدع مجالا للشك أن تعاونهم مشروط بالقيم المشتركة. والآن، أكثر من أي وقت مضى، يتعين على بريطانيا والاتحاد الأوروبي الدفاع عن قواعد الديمقراطية الليبرالية والترويج لها، وليس تبني القومية الشعبوية النرجسية.
المصدر : الجزيرة ، بروجيكت سينديكيت